«لكن السير هو ما يصنع السائر/ بين أقزام العتمة/ وباقة الأشجار التي تقدّمت في السن/ ومالت شاكيةً/ على الرصيف والجدران المتداعية» (بسام حجار ــــ ألبوم العائلة)
مع بسام حجار (1 كانون الثاني/ يناير 1955 ـــــ 17 شباط/ فبراير 2009)، لم يكن الشعر مهنة أو فنّاً، فيمكننا بذلك أن ننصب ميزاناً للمفاضلة بينه وباقي المهن والفنون، بل تحول إلى ما يصفه روبرتو خواروث بالـ «مهنة الأساسية». فالقصيدة هنا تهرب من كل تعريف تقني ممكن إلى نوع من الكشف، شيء ما يضيء للإنسان ما في داخله، أو ذلك «السَير» الذي يصنع الطريق على رأي أنطونيو ماتشادو. شعر بسام حجار ليس بالزخرفة أو بالأحاجي اللغوية أو بالإستيتيقا، بل هو أقرب إلى المعنى اليوناني للكلمة الذي يقرنه بالفعل أو التحقق. الفعل هنا ليس بكتابة معينة في عالم يطوف بالمكتوب، بل هو التماثل مع الحياة ذاتها، مع الكائن الأساسي في داخله الذي يعطي للشعر روحاً تجعله أسمى من كل مقايسة وأعلى من كل مفهوم، إلى ذلك الجوهر الفريد الذي يستحق اسم المطلق.
شابَهَ بسام شعره، فكان كما يصفه صديقه عباس بيضون «وكأن القصيدة تحت لسانه»، ليكون الشعر معه تجربة كيان ووجود. إنها تلك التجربة التي يصوغها الفرد مع أناه الأكثر حميمية، مع البيت والرِواق (عندما أتى المساء الصديق/ وجلس أمامي يدخن غليونه الكبير/ لم أقل شيئاً/ كانت الجدران تحدث نفسها/ عن التعب والوقت والغرفة الباردة/ كان الرواق يتثاءب من فمه المربع)، أو محيطه الأقرب الذي نجده في قصائده لمروى ابنته أو لرينيه ونجلا. إذ لم يعرف بسام ككائن اجتماعي، وإن لم ينقصه الكرم وحسن الضيافة. الشعر عند بسام هو هذا النبض الداخلي الحيوي الذي يجد بهجته أو حسرته في اللغة، أو هو كما رثاه الشاعر أنسي الحاج «جوّانية تحفر ذاتها». إنه تعريف قريب لما يقوله إيف بونفوا عن أن الشعر هو «فِعل الحقيقة ومكانها». لفرط ما انمحت الحدود بين بسام وشعره، نكاد نرى الكلمات وقد تحولت إلى تجاعيد تغضِّن العينين عند الأرق، إلى ذلك التوتر في القدمين أو المسافة ما بين النافذة والنافذة: «لفرط ما أحذف النهارات لم يبق مني إلا كائن الأرق، شبيهي، الذي يحسب أن الوقت يمضي إذا مشيته مراراً من الباب إلى النافذة، من النافذة إلى النافذة، ولا أدرك جدواه. لفرط ما أحاول نسيان الوقت أقع في خطأ الانتظار وأعلم أنّ من هو مثلي لا ينتظر شيئاً ولا يرغب في شيء، لأن الأشياء قاطبة تقيم في نهارات أحذفها لكي لا يبقى مني إلا رميم الأرق، شبيهي، الذي ما عرفت سواه».


مرّ بسام حجار في المشهد الشعري اللبناني مثل الجوهريين أو الرهبان، ثقافة من غير ادّعاء، وعمقاً من دون فقاعات، وتأملاً من غير صخب. ثقافة بسام أكثر ما تبدت في مقالاته الصحافية في «النهار» و«السفير» و«المستقبل»، وفي نصوصه النثرية من «صحبة الظلال» (١٩٩٢) الذي خلق فيه أفقاً يستلهم فيه لوتريامون وفوكنر ولوي فيرديناند سيلين وموريس بلانشو وغيرهم من أعلام الأدب والفكر في الغرب، ليستكمل في «معجم الأشواق» (١٩٩٤) حفريات نثرية في اللغة والمعنى، تتكئ على التراث من الأناجيل إلى ابن عربي في «ترجمان الأشواق» ومجنون بني عامر وابن الفارض وابن حزم الأندلسي، وكذلك في «كتاب الرمل» (١٩٩٩) الذي تقمص فيه بورخيس في عالمه وسيميائياته ومتاهاته، فكان أشبه بكتاب فوق كتاب، أو برمل فوق الرمل. في ترجماته ــ هو الذي كان قارئاً نهماً للرواية ــــ نقل حجّار إلى المكتبة العربية ذخائر من الأدب الأجنبي مثل «قطارات تحت الحراسة المشددة» للتشيكي بوهوميل هرابال و«اليوم المرتجى لسمك الموز» لسالينجر، وهو الذي كان له السبق في تعريف المكتبة العربية بأدب غربي «أساسي» مثل روايات أغوتا كريستوف ويوكو أوغاوا. تأمُّل بسام كان من النوع الجوهري، والمتأملون «الجوهريون» يمكن أن يكونوا من صنف الشعراء أو غيرهم، مثل خبّاز يحدق في الطحين أو امرأة تفكر في أمر ما عند نشر الغسيل. لحظات التأمل هذه جوهرية لأن الكون يتنفس عبرها، ولأنه في هذه اللحظات بالذات يتخفف الواقع من خوفه ليصل إلينا.
صدرت أخيراً في بيروت أعماله الشعريّة الكاملة عن «دار الرافدين» و«منشورات تكوين»

الساكنون شعرياً ووجودياً في الكون مثل بسام حجار، ينظرون وينتظرون، ينظرون إلى الكائنات والأشياء وكل ما هو في دائرة الإنساني تقترب منا لتأخذ أشكالها وتستجدي أسماءها، وينتظرون لأن من هم مثل بسام يكتفون أولاً بالمشاهدة من دون أن يأخذوا أو أن يطلبوا السلوى، من دون أن يطلبوا أي شيء، بنوع من الحضور الشفاف في الكون (أقرأ البياض على ورق دافئ كالضريح/ استمهل الضريح/ أقرأ تعب النهارات في الصحف اليومية/ أستمهل الضريح/ وأعلمُ كم هو مرعب/ أن تسرّح الأحلام العالقة بشعرِك وأسنانكَ/ وأن تزجر غراب عينيك)، وعندها سيتفتح شيء في هذا الكون مثل زهرة اللوز. بعدها، يقوم المتأملون كل على حدة بالفعل الذي يتوجب عليهم فعله، بالطريقة الأسهل، قصائد الخبّاز هي أرغفته المتوهجة، وأرغفة بسام هي قصائده من «مشاغل رجل هادئ جداً»، و«فقط لو يدكِ»، و«مهَن القسوة» و«مجرد تعب» وغيرها من إرثه الذي، والكلام لأنسي أيضاً «وبعد أن تختفي أصوات كثيرة وينحسر الموج، سيناط اللثام عن جواهر قليلة في قعر الجرة المقدسة، وسيكون بسام حجار إحدى هذه الجواهر». بسام الذي تنبأ في «تفسير الرخام» (٢٠٠٦) برحيله المبكر (فلم يبقَ ما أصنعه/ برجائي/ وبالشهوات التي تبقّت/ لم يبق ما أصنعه بمتّسع اليوم/ كل يوم/ بالحبور الأحمق/ لعابرين في أوقات شاغرة)، ها هي النبوءة تتحقق حول الجواهر القليلة في قعر الجرة المقدسة: جيل جديد من الشعراء والشاعرات يضيئون شموعاً حول أعمال بسام حجار المتفرقة عن «دار الآداب» أو «المركز الثقافي العربي»، أو الأعمال الشعرية الكاملة الصادرة أخيراً في مجلدين كاملين عن «دار الرافدين» و«منشورات تكوين» (٢٠١٨)... «يد الغائب التي تدل على الغياب» أضحت عند بسام حجار تدل على كل من أراد أن يتخذ من الشعر طريقة للعيش شعرياً في العالم، في الحضور كما في الغياب.



سيرته في سطور
في ذلك اليوم من شهر شباط (فبراير) قبل عشرة أعوام، رحل بسام حجار الذي كان يعيش تقريباً متوارياً عن الأنظار. قلة قليلة كانت تعرف بسام خارج كتبه وأمكنة عمله القليلة أيضاً، وهو المولود في صور في الجنوب اللبناني عام ١٩٥٥، والحاصل على الإجازة التعليمية من الجامعة اللبنانية ليتابع دراسته في «السوربون» الباريسية مستحصلاً على دبلوم في الدراسات العليا في الاختصاص ذاته. عمل في الصحافة، فكتب لـ «النداء» (١٩٧٩-ـ١٩٨٢) و«النهار» التي كان أحد مؤسسي ملحقها الثقافي. غادرها بعد غياب الكيمياء مع أحد المسؤولين عن الملحق، فانتقل إلى «السفير» ليستقر أخيراً عام ١٩٩٩ كمحرر وأحد أهم أعمدة ملحق «نوافذ» الذي كان يشرف عليه الروائي حسن داوود، وهو الملحق الثقافي الأسبوعي لجريدة «المستقبل». هذه القلة التي عرفت بسام كانت تعي تماماً أنها فقدت شاعراً من قماشة نادرة، وأن الشعر العربي الحديث سينتظر طويلاً ليحظى بشاعر من معدن بسام وفرادته.
في المرحلة الأولى، خصوصاً من شعره، التي ظهرت في أعمال مثل «مشاغل رجل هادئ جداً» (١٩٨٠) و«لأروي كمن يخاف أن يرى» (١٩٨٥) و«فقط لو يدكِ» (١٩٩٠) التي خاطب فيها أشياءه الحميمة مثل باب الغرفة مبشراً إياه بأنه «سيحيا من بعده»... كانت لديه القدرة أن يحبس الكون في غرفته، ويستحضر الحياة إلى أشياء وكائنات لتأخذ معه مقام الأيقونات. في هذه المرحلة الأولى، كان بسام مثل النحات الإيطالي جياكوميتي، لا يتعب من الرجوع إلى الأشياء نفسها، ليجعلها في كل مرة تتشابه مع ذراتها، لكن بتغييرات مينيمالية، وهي الأشياء الذي يدين لها وتدين له في الوجود والذاكرة. أعمال المرحلة الثانية مثل «صحبة الظلال» (١٩٩٢) و«مِهن القسوة» (١٩٩٣) و«مجرد تعب» (١٩٩٣) و«معجم الأشواق» (١٩٩٤) يمكن أن نطلق عليها اصطلاحاً مرحلة «النثر»: مرحلة أخذ النثر إلى مداه الأقصى وتطعيمه بالفلسفة والفكر ومحاورة التراث الإنساني في جناحيه الشرقي والغربي. ما كان يفتنه عند بورخيس الذي كتب «كتاب الرمل» ككتاب فوق كتاب الصانع الأرجنتيني الماهر، كانت لعبة المرايا حيث يقف الكاتب في مواجهة قرينه، كما لو أن الكائن يحرر هنا كل المتعدد الذي فيه، ويصير أحدنا آخره المختلف على رأي رامبو.
كان بسام حجار يجد أمانه في العودة إلى «البيت»، وفي شعره لم يضع علامات سيميائية حول توجهاته السياسية، أو غرامياته، أو حتى قراءاته، وعرّف المكتبة العربية بكتّاب قد يكون ما أنجزه هو بطاقة التعريف الوحيدة بأعمالهم مثل يوكو أوغاوا وسالينجر وايشنوز وأغوتا كريستوف وكواباتا. أراد من شعره أن يبدأ مع بداية كل يوم أن يكتب إنجيل ذاته بحوارية مع الذات والعالم مجدولة بالأسئلة، ليجعل من البيت «ثيولوجيا» يومية يكون هو في وسطها ووسط وضوح كافكاوي يطغى على قلقه الشعري.
كأن ذلك الوضوح كان يدفع النص لنعي صاحبه، استدعاء الموت الذي أكثر ما نجده في المرحلة الثالثة والأخيرة في أعمال مثل «ألبوم العائلة» (2003) و«تفسير الرخام» (2006). وقد صدرت أخيراً في بيروت عن «دار الرافدين» و«منشورات تكوين» الأعمال الشعريّة الكاملة للشاعر اللبناني الراحل بواقع مجلدين من القطع المتوسط وبإعداد وتقديم الشاعر علي محمود خضيّر.