حط الليل على جبيني.تساقطت النجوم، وتسافدت مثل القطط على التراب. أحلف كل صباح أن أحذف الليل والنهار من قائمة أصدقائي، لكنني لا أبرّ يميني. أحلف أن أمحو اسم نسرين، وأن أضرب بالحجر جبينها، لكنني أحنث في يميني.
لدي أصابع من طين، ولدي مقاطع حنين.
لكن حروف العطف كلها لا تسعفني كي أعطف يدي على كتف الحبيب. لا تنفعني كي أفلت نفسي من عروة قميصه.
سأحيلك إلى رماد يا قبيلة المحبة. سأحيلك إلى زانية أيتها الوردة.
حط النهار على جبيني.
حطت الثآليل على ظهر كفي.
ويحه من قسم الأمور هكذا. من جعل نسرين قبيلة وحدها. ومن جعل الليل يقضم جبيني ويفلت جبينها.
16-9-2018
■ ■ ■

أطفأ السراج ذاته فوق الحجر.
لذا حان الوقت كي أعيدك إلى أهلك سالماً يا حبيبي.
لكن خلّني قبل ذلك أكتب بضع كلمات. لا يصلح الأمر من دون كلمات أخيرة. فالفجر سيعبر الحقول عما قريب. وأنا أريد أن أعلّق في عنقه جرساً، وأن أنحر لمقدمه فرساً. 
يا حبيبي، فمي يهتف باسمك، لكن قلبي يزحزحني عن طريقك، ويقرّعني فيك: دع المحبة لمن هم أقدر منك، دع الأمانة لمن يقدر على حملها. هكذا يدُعّني، ويقول لي. 
بلى، الأمانة أكبر مني، المحبة أكبر مني، وسراجي يدخّن مطفأ فوق الحجر. لذا سأحملك إلى أهلك.
أفسون ـــ «حب» (صورة فوتوغرافية على ورق ــ 30 × 43 سنتم ـــ 2007)

 ميراثي كله سأتركه لك. سأترك لك النخلة مائلة، كي تتدنى إلى يديك عراجينها، وأترك لك الجرة في الظلة كي يبترد لك ماؤها.
 لا أمل لك فيّ يا حبيبي. لا أمل في الشمس التي تطلع من مخدي مطلعي، ولا في العقيق الذي يحرق إصبعي.
غفا السراج فوق الحجر. 
غفا الحبيب على ذراعي.
والفجر قطيع ضأن يعبر الحقل، والأجراس تتدلى باكية من أعناقه.
■ ■ ■

ما أعظمك يا نخلة. ما أعظم يدك التي بعشرين إصبعاً. وما أعظم ثمرتك التي تتحجر تحت الشمس كالعقيق. وددت لو أنني قدر يغلي تحت ظلك.
وأنتِ أيضاً ما أعظمكِ يا عُقاب. يا من تذعرين بصيحتك الشمس ذاتها. وددت لو أنني حجر تحت جناحك.
كل شيء هنا أعظم مني وأرفع شاناً. كل شيء يجر فخوراً تاريخه الطويل وراءه مثل ذيل التدرّج. أما أنا فأزحف على بطني كأنني ثعبان. «احفر وجودك بالرمح على الصخرة»، يصيح بي الرب. «اطبع شفتك على قلبي»، يصيح بي الحبيب.
وأنا تائه لا أميز بين الصخرة والصرخة. بين بيت الحبيب وبيت الغريب.
وجودي ليس مؤكداً بعد. الكلمات تعوزني. وليس لي سعف أضرب به الريح على خصرها، ولا جناح أكسر به صلف جبل الأربعين.
27-9-2018
■ ■ ■

الصيف صاحب قطعان كبيرة.
وفي الليل تجوب نجومه السماء مثل كلاب ضالة.
لكن ما همني الليل؟ أنا بانتظار النهار كي يمزق صقر أربد بجناحه ساتان السماء الأزرق، وكي تشعل شمس أريحا بولاعتها الوثائق والحقائق كلها.
شجر الباباي أعلى من النخيل كله. الباباي سنّة، والنخيل فرض. واليمامة تنقر بينهما عين الشمس وتبكيها في الوقت عينه. وهناك من يصفّ في الصناديق كيزان الذرة. هناك من يضع الحقيقة على وضم ويكسر بالبلطة عظامها.
أيها العابر قرب بيتي سأعطيك فرسي. فليس بي حاجة إلى الخيل وأعرافها. الخيل أمر عابر، وهي تسرج للعابرين. أما أنا فمقيم هنا تحت قدم جبل الأربعين. ما إن يحط غراب على نخلة حتى يسودّ جناحي. وما إن يضرب السواد جناحي حتى تدبّ الصفرة في العراجين.
حلت الظهيرة. الكائنات انتعلت ظلالها. الشمس أحرقت دفاترها. وأدخل الصيف أنعامه في حظائرها.
أما أنا فلست سوى يمامة تقضم قرص الشمس وتبكيه في آن.
3-9-2018
■ ■ ■

أمشي في بستان آب بين الشوك والطيّون. أدني بمحجني غصن تين وألقط ثمرة. أدني غصن خروب كذلك. الأغصان كلها تتدانى. كلها تتفانى في خدمتي. سوف آتيك بزهرة من زهور آخر الصيف، مع أن الزهور حيرة كبيرة. فالحجارة زهور، وفقاعات الصابون زهور.
أنا لا أعرفك، لكنني أعرف الزهور التي تليق بك. سوف أعقد لك واحدة خلف أذنك، وواحدة على كتفك. سوف أفرش البتلات في مخدعك.
الحب زهرة، والكره زهرة أخرى. وأنا ألعب بهما كأنهما زهرتا نرد. كأنهما حجر بدّ يعصر بثقله حبّ الزيتون.
أنا مشوش قليلاً. لا أعرف يقيناً ما الذي أقوله، وما الذي أسعى إليه.
أعرف فقط أنني نصبت خيمة صغيرة في المنحدر، وأنني نصبت حجارة كي أدل العابرين على طريقهم.
أدني بيدي غصناً، وأدني بمحجني شوكة.
ما أعظم نصيبي في هذه الفانية!
ما أعظم فتنة هذه الغانية!
26-8-2018
■ ■ ■

في أول الليل ليس هناك سوى نجمة واحدة: نجمة الزهرة. أرفع رأسي وأمشي تحتها، وهي تسكب حليبها على جبيني.
وفي منتصف الليل ليس هناك سوى مريم المجدلية في تختها الفارغ الكبير. وقد أبكاني هذا.
لا أحب أن أبكي. لكن الحقيقة أنني بكّاء، وأن دموعي تصب في بحيرة الليل السمراء.
أيها العابر قرب بيتي سأعطيك فرسي. فليس بي حاجة إلى الخيل وأعرافها. الخيل أمر عابر، وهي تسرج للعابري


لا بأس يا أحبتي، لا بأس. احتملوا بكائي قليلاً. احتملوني وأنا أعرج على ساقي في ليلة المعراج.
وحين أموت ارفعوني إلى درب التبّانة. ضعوني هناك في نعش «بنات نعش». أريد أن أكون نديماً للفرقدين. أريد أن أكون قدحة صغيرة بين نجمتين.
واجعلوا صندوق أوراقي معي. أريد أن أعمل هناك على مقطوعاتي. مقطوعة للنهار، ومقطوعة لليل. مقطوعة للسيف ومقطوعة للضيف. فالشعر رحلة لا تنتهي.
في آخر الليل ليس هناك سوى نجمة كبيرة واحدة. ليس هناك سوى شفة صامتة.
26-8-2018

■ ■ ■

ليس لطائر الصرّد ابن كي أكنّيه به، وأناديه: مرحباً يا أبا دجانة. لذا دعوني أكسر له جناحه.
بل دعوني أصيد النهار ذاته كما لو أنه طائر صرّد.
أعرف كيف أشتتكم وأشتت نفسي، أنا من أكلت رغيف النهايات في البدايات. أنا من قست عمري بالكنايات.
فإلى أين تريدون أن أمضي بكم؟
ليس هناك هاوية أعمق من العين ذاتها. لذا سأجعلكم تحدقون في عيني. في السبخة المالحة التي تنبت قصب اليأس الملعون.
24-8-2018
■ ■ ■

كان الأحبة مجتمعين في البيت حولي. لكن أذان الفجر شتتهم.
فتحت الحنفية وتوضأت. ثم صليت ساجداً فوق الظباء على السجادة.
عبرتْ طيور الفجر في العتمة. في مناقيرها أعواد قصيرة. النور أبداً عيدان قصيرة. النور أبداً عيدان كسيرة.
الروح لا تقنع بما يوضع في الطبق أمامها. الروح كلبة مرضع، جراؤها تبكي جائعة في الوكر.
في ما مضى كان الزمان كريماً معي. مرّ عليّ ومسح بالخضرة شفتي. مع ذلك فقد ظل العدم يحوّم مثل كلب شريد حول داري.
العدم فصل طويل لا نهاية له.
مضى الأحبة في الفجر عني.
ناديتهم: خلّكم هنا يا من مزّق العدم رئاتكم. اقعدوا كي أغني لكم وأسلّيكم: النور عيدان قصيرة، الفرح أيام قليلة.
اطفأت النجوم خيامها، طارت المناديل في عتمة الفجر، والنهار كلب شريد يحوّم من بعيد حول الدار.
8-2-2016

* شاعر فلسطيني