كأنّ مشهد «الحريق» المتواصل في المنطقة العربية منذ قرابة عقد لم يكن كافياَ بالنسبة إلى رسّام الكاريكاتور اللبناني عبد الحليم حمود. أو لعلّه الحريق ذاته وقد شبَّ في «حقل» آخر. لكنّ حمود لم ينتظر وصول «النيران» إلى «حديقة داره»، فقرَّر بنفسه أن يُشعل حريقه الخاص بعد قرار صادم نفّذه قبل أيام. هكذا، في لحظة واحدة، أنزَل حمّود «حكم الإعدام» بقرابة ألفَيْ رسم كاريكاتوري أنجزها خلال ثلاثة عقود في ما وصفه بأنّه «فعل احتجاج وخيبة ومصارحة». لكن ما الذي دفع صاحب كتاب «تجلّيات حنظلة» إلى الإقدام على هذه الخطوة؟ «كان منَ الضروري أن يقوم أحد ما بصناعة مشهدية لإعلان موت فن الكاريكاتور أو أقلّه ضمور هذا الفن بهدف لفت انتباه النقاد والمثقفين»، يقول حمود لـ «الأخبار». برأيه، إنّ إحداث الوقع القوي كان يتطلّب اللجوء إلى «مشهدية النار»، رغم أنّ هذه الرسوم هي التي «درّبت أصابعي ومخيلتي وكانت رئة تنفسي»!
النار، كما يراها الرجل، هي لغة صريحة، ولهذا الأمر حضوره ومكانه التاريخيان: «الحرق هي عملية بدائية إنسانية أولى بدأت مع الإنسان الأول في لحظة انتحاره أو غضبه أو يأسه من حياة وصولاً الى البوعزيزي في تونس ولمّا تنتهي بعد. وما بين الوتدين اللذين يتحرك بينهما هذا الخط، هناك الملايين من الاحراقات التي أقدم عليها أدباء وفنانون لنصوص وأعمال إجتجاجاً على واقع ما». الرجل الذي يرفض وضع الخطوة في سياق استعراضي، يبدو كمن قرّر بهذه الطريقة تجاوز فعل الاعتراض إلى فعل الإنتقام من إرث وضع بصمته عليه لسنوات. يقرّ حمود بأنّ في حركته ما يمكن تفسيره كفعل انتقام ولكن «الإنتقام هنا ليس من غريم واضح، بل من الزمن والمتغيرات». ليس خافياً على الرجل أنّ تراجع الكاريكاتور في لبنان يرتبط بشكل كبير بالموت التدريجي للصحافة الورقية. «المساحات تتقلص وتنحسر يوماً بعد آخر. مات بيار صادق ولم يحل مكانه أحد. كذلك جان مشعلاني وملحم عماد وستافرو...». يتفهّم عبد الحليم التحوّلات الكبيرة والمتسارعة في عالم الصحافة والإعلام، ويعتبرها إيجابية في نواح كثيرة لكن دونها خسائر أيضاً، و«المطلوب اليوم من ضحايا هذا التغيير فتح نقاش كبير حول آليات إعادة إحياء هذا الفن ومواكبة التطورات وليس مجرد فتح مجالس عزاء». يرى حمود أنّ اللحظة الراهنة تظهِر بوضوح «ما كنا نقوله دائماً أن الكاريكاتور هو فنٌّ لقيط»، موضحاً أنّ «الفنون التشكيلية تتعامل مع الكاريكاتور باستعلاء والصحافة في المقابل تعتبره إبن الفن. هو الإبن الذي لا أب ولا أم له»!
تتجاوز السيرة الحافلة لإبن بلدة أنصار الجنوبية رسومه الكاريكاتورية أو ما قدّمه على مستوى الفن التشكيلي. ألّف الرجل عشرات الكتب حول الإعلام والادب والسير الذاتية، لكنه في الكاريكاتور تحديداً قدّم كل شيء لهذا الفن على ما يقول. نشر رسومه في عدد كبير من الصحف والمجلات المحلية، بدءاً من أوائل التسعينيّات، وكذلك في عدد من المحطات التلفزيونية والإذاعية، ونظّم وشارك في معارض وندوات وورشات تدريبية وكَتَب حول تاريخ فن الكاريكاتور. برأيه إنّ «الفنان والأديب يعمل ويخطط لكي تطير أفكاره إلى أمكنة كثيرة». لكن ما فائدة امتلاك المادة الإبداعية والوسيلة غير موجودة؟ يسأل حمود. لم يشعر رئيس «جمعية حواس» بالندم على «فعلة» إضرام النار برسومه، أقلّه حتى الآن. حاول طمأنة شريحة واسعة من المعترضين على الخطوة باعتبار أنّ ما قام به هو إتلاف لذاكرة فنية وصحافية، بالإشارة إلى أن ما أحرقه هو «الأصول» فقط، فيما أعماله المطبوعة أو التي عرضت في المحطات التلفزيونية والإذاعية موجودة في أرشيف تلك المؤسسات. لكن حمود يبدو متمسّكاً بصوابية قراره ويرى أن هذه الخطوة، رغم قساوتها، كان لا بد من أن تحصل في النهاية حتى لو حملت برأي البعض دلالات الهزيمة. يقول عنها إنّها خطوة تستند إلى فلسفة روايته الأخيرة «يوري إله السمكة السوداء» (منشورات حواس ــ صدرت له ثلاث روايات وعدد من المجموعات الشعرية) التي تقوم على «جرأة التجربة واتخاذ قرارات لطالما بقيت معلّقة». في جزء ما من «مشهدية» عبد الحليم حمود على أرض الواقع ثمة تشابه مع واحدة من رسوم الفنان الشهير ناجي العلي بعنوان «النهاية». لكن هل انتهى «العرض» فعلاً؟