بغداد الأزل…

  • 0
  • ض
  • ض

كان يوسف العاني (1927 - 2016) صاحب نكتة باردة، لا يخفي تعبه، وتنضح من أحاديثه المرارة، حينما تعرّفنا إليه في تونس ذات دورة من «أيّام قرطاج المسرحيّة» ضمن لجنة تحكيم تاريخيّة لا يعرف الناقد الشاب المتحمّس ماذا يفعل فيها مع كلّ هؤلاء: سمير العصفوري، ويوسف العاني، وسعد الله ونّوس، وعادل قرشولي، وسميحة توفيق. كان ذلك في خريف 1987، ومن يومها لم ينصرم حبل الصداقة، ولم يتوقّف الاعجاب. الرجل الذي إنطفأ أوّل من أمس، بعد أسابيع من الغيبوبة، في مستشفى أردني، بعيداً من بغداد التي غادرها منذ الغزو الأميركي للعراق (2003)، لا يختصر ذاكرة المسرح العراقي والعربي فحسب، بل يجسّد في سيرته التاريخ العراقي الحديث. إنطلق شاباً راديكاليّاً خلال العهد الملكي الذي عارضه بشدّة، ترعرع في خضم الصخب الثوري، ومشاريع التحديث الكبرى، وتشرّب مناخات انتفاضة كانون الأوّل/ ديسمبر 1941 ضد الاحتلال الانكليزي والعائلة المالكة، وكتب مسرحيّاته الأولى خلال تلك الحقبة منذ مطلع الخمسينيّات، نصوصاً شعبيّة بسيطة تنتمي إلى الكوميديا الانتقاديّة التي تفضح الظلم والاستبداد وغياب العدالة، وعرف طعم السجن. من هذه المرحلة يكفي أن نذكر «آني أمك يا شاكر» (1955) التي تغرف من معين غوركي (الأم) وبريخت (الأم كوراج). واكب ثورة 14 تموز/ يوليو 1958، وكان مقرباً من عبد الكريم قاسم، فأسس في عهده «مصلحة السينما والمسرح» وأدارها حتى اعتقل على أثر انقلاب شباط/ فبراير 1963، الذي اعقبته سنوات المنفى في بيروت. ثم تعايش مع عهد صدّام حسين الطويل، حتّى الغزو الأميركي. في عهد الثورة القصير، إطّلع على المسرح الأوروبي، تحديداً في ألمانيا (الشرقيّة آنذاك)، حيث اكتشف «البرلينر أنسامبل»، وتعرّف إلى الممثّلة هيلينا فايغل. وبعد الانقلاب، خرج إلى بيروت التي عاش فيها حتّى نكسة الـ 67. في مذكراته يروي كيف ظنّ أن حياته انتهت مع المنفى. في الحقيقة، سيولد يوسف العاني من جديد، خلال تلك السنوات اللبنانيّة التي احتضنت نهضة ثقافيّة وسياسيّة وصحافيّة. سيكتب في بيروت نصوصاً مهمّة، ويمارس النقد، ويرتبط بعلاقات متينة مع مبدعين ومثقفين بارزين من العالم العربي، وسيتأثّر بمسرح الرحابنة كما روى لاحقاً. وعندما عاد إلى بغداد ليقدّم أعماله من خلال «فرقة الفن الحديث» التي أسسها العام 1952 مع إبراهيم جلال، وعبد الرحمن بهجت، ويعقوب الأمين، كانت نصوصه المسرحيّة قد نضجت، وانصهر الهاجس الاجتماعي والنقدي الذي لم يفارق هذا الشيوعي القديم، في نصوص ناضجة تقنياً وجمالياً ودراميّاً. صاحب «بغداد الأزل بين الجدّ والهزل» (1975) التي كان لنا حظ مشاهدتها في بغداد الثمانينيات، بإخراج قاسم محمّد، هو الكاتب المسرحي العراقي بامتياز. إلى جانب قدراته الدراميّة، برز ممثّلاً على الخشبة في أعماله، وفي السينما، وعلى الشاشة الصغيرة. فنّان شعبي دخل وجدان العراقيين منذ دوره في «سعيد أفندي» (1958، إخراج كامران حسني، حوار العاني، عن قصّة «شجار» للأديب العراقي إدمون صبري). وحافظ على مكانته سنوات طويلة بعد نجاح هذا الفيلم المحمّل بشحنات النقد الاجتماعي والسياسي. أعاده يوسف شاهين إلى السينما منتصف الثمانينيات في دور البحّار إلى جانب داليدا، في «اليوم السادس» (عن رواية أندريه شديد الشهيرة). تلك السيرة الغنية، وقوامها سبعون عاماً ونيّف في المعترك الفنّي والثقافي، حافلة بالصور، والمواقف الشجاعة، والخيبات، وفترات الصمت. يترك قرابة الأربعين مسرحيّة التي طبعت حركة المسرح العراقي، من أعمال الستينيات كـ «المفتاح» و«الخرابة» التي تجمع في أحداثها بين فلسطين والجزائر والفيتنام، إلى الاعمال البريختية «البيك والسائق» (1974، عن السيد بونتيلا) و«الانسان الطيّب» (1985، عن سيتشوان، أخرجها عوني كرّومي). يوسف العاني أحد أهمّ البريختيين العرب، إلى جانب الجزائري ولد عبد الرحمن كاكي (1934 - 1995)، واللبناني جلال خوري. حتّى النهاية، بقي «فنّان الشعب»، حاملاً هاجس الواقعيّة والقضايا الوطنيّة والاجتماعيّة. وكان من الطبيعي أن يغرق منذ عقدين في اليأس والصمت، وهو يبحث لبلاده الجريح وأمّته المشلّعة عن أفق، لكن سدىً، في مستنقع الاستبداد والتخلّف والمذهبية والوصايات الأجنبيّة. شيء ما يجعلنا نفكّر أن يوسف العاني قتلته الخيبة على مشارف التسعين.

0 تعليق

التعليقات