الموت ينهي حياة اشتعلت واشتغلت بالحب والفن، فارتاحت على مسرح صغير رقد عليه المسرحي العراقي يوسف العاني في أيامه الأخيرة في أحد مستشفيات عمان. صعد حاملاً مسرحه، وقلبه الحزين على العراق.العاني من ابرز القامات المسرحية في تاريخ العراق والبلاد العربية. ولد في محافظة الانبار، ونشأ في محلة شعبية قديمة تعرف بـ «سوق حمادة» وسط بغداد شكلت ركيزة لأشكال كتاباته المسرحية التي نهلت من أجواء وملاذات تلك المحلة. عمل مدرساً معيداً في كلية التجارة والاقتصاد بعد تخرجه من «جامعة بغداد» عامي 1950-1951 للاشراف على النشاط الفني في الكلية، مثلما أسّس «فرقة الفن الحديث» مع الفنان الراحل إبراهيم جلال، وعدد من الفنانين الشباب عام 1952. رفدت الفرقة المسرح العراقي بعدد كبير من الأعمال أبرزها «الشريعة والخرابة» و«اني امك يا شاكر» و«الخرابة والرهن»، و«نفوس»، و«المفتاح».
طوال رحلته، كان على حنين أزلي إلى الخشبة، فكتب أكثر من خمسين مسرحية طويلة أو من فصل واحد من ابرزها: «القمرجية» أول مسرحية للعاني من فصل واحد، و«طبيب يداوي الناس» عام 1948 وكان لا يزال طالباً في جامعة بغداد. بعد تخرجه، كتب مسرحيات: «راس الشليلة» (1950)، «مجنون يتحدى القدر» (1951) التي اعتبرت أول مونودراما في العراق، و«تؤمر بيك» (1952)، و«موخوش عيشة» (1952)، و«ست دراهم» (1955)، و«جحا والحمامة» (1957) من نوع البانتومايم وقدمت على «مسرح ستانسلافسكي» في موسكو عام 1957، و«حرم صاحب المعالي السعادة» لبرين سلاف نوشيتس التي تعدّ من الأعمال التي لا تبارح الذاكرة، كما مثّل في العديد من المسرحيات ومنها «البيك والسائق» (1974) التي عرضت في مصر وحققت نجاحاً كبيراً، و«بغداد الازل بين الجد والهزل» (1975)، و«الإنسان الطيب» (1985) إخراج عوني كرومي.
استمد مواضيعه من الحرفيين والعمّال والمسحوقين

للراحل اسهامات كبيرة في السينما العراقية ومن أبرزها «فيلم سعيد افندي» (1958 اخراج كاميران حسني). كما كتب القصة والسيناريو والحوار لفيلم «أبو هيلة» (1962) اخراج محمد شكري جميل ويوسف جرجيس. والفيلم مأخوذ عن مسرحية للعاني باسم «(تؤمر بيك». وكتب فيلم «وداعاً يا لبنان» المنتج في 1966- 1967 من اخراج حكمت لبيب، ومثل في فيلم «المنعطف» المأخوذ عن رواية «خمسة أصوات» لغائب طعمة فرمان. كذلك، أسهم العاني في فيلم «اليوم السادس» للسينمائي الراحل يوسف شاهين عام 1986، وشارك في فيلم «بابل حبيبتي» مع الفنان فيصل الياسري 1987، وفيلم «ليلة سفر» للمخرج بسام الوردي.
إلى جانب ذلك، كتب عشرات الأعمال ومثّل في الاعمال التلفزيونية ومنها تمثيليات «ناس من طرفنا»، و«سطور على ورقة بيضاء» (اخراج الراحل إبراهيم عبد الجليل)، و«رائحة القهوة» اخراج عماد عبد الهادي، إلى جانب «ثابت افندي» الفائز بجائزة أفضل سيناريو في «مهرجان اتحاد الاذاعات العربية» في تونس 1983، وتمثيلية «بلابل» (اخراج حسن الجنابي) الفائزة بجوائز في «مهرجان قرطاج للاذاعة والتلفزيون»، وعدد من المسلسلات أبرزها «الأيام العصيبة -الهاجس» لصلاح كرم، و«هو والحقيبة» (اخراج رجاء كاظم)، و«الحضارة الإسلامية» (اخراج داود الانطاكي ـ إنتاج أبو ظبي) و«الانحراف» (إنتاج الكويت).
وللعاني مؤلفات بين مسرح وسينما وذكريات أبرزها «راس الشليلة» (1954)، و«مسرحياتي الجزء الأول والثاني» (1960 و1961)، و«بين المسرح والسينما» (1967 اصدار القاهرة) و«أفلام العالم من اجل السلام» (1968)، و«هوليود بلا رتوش» (1975)، و«التجربة المسرحية معايشة وحكايات» (بيروت 1979)، و«عشر مسرحيات ليوسف العاني» (بيروت 1981)، و«المسرح بين الحديث والحدث» (1990) و«شخوص في ذاكرتي» (2002).
يقول الباحث الفني العراقي لطيف حسن إنّ من يرغب في تناول المسرح العراقي الحديث، بدءاً من اربعينات القرن الماضي حتى وقتنا الحاضر، لا يمكن له أن يتجاوز أو يتجاهل أثر العاني الريادي والمؤثر في هذه الفترة ودوره الكبير في بناء أسس المسرح النقدي الجاد الذي بدأ عملياً بعد تأسيس معهد الفنون الجميلة... المسرح المنحاز للناس تأليفاً وتمثيلاً ومنهجاً، الذي دفع بالحركة المسرحية العراقية الى الأمام، وخلق العلاقة الحميمة والمتبادلة بين المسرح والجمهور. علاقة كانت تفتقر اليها الحركة من قبله، وأزال نظرة الجمهور القديمة الى المسرح بتبني مشاكله الاجتماعية. جسد شخصية حكائية ما زالت في ذاكرة البغداديين وأناس الحارة الشعبية. جاب دهاليز السياسة من خلال الانتصار لافكار الحركة الوطنية، ونضالها لطرد الاستعمار والتخلص من قيوده وأحلافه. كان يعتقد أنّ بقاء التخلف الاجتماعي واستمراره وتفشي الفساد وكل البلاوي الاخرى هي نتاج سياسات الحكومات المتعاقبة، الموالية لامبراطورية التاج البريطاني والاجنبي ونجد في مسرحياته الاولى ذات الفصل الواحد، عديد الرؤى الفنية. انحاز بقوه الى اليسار منذ أن كان طالباً في كلية الحقوق، وانتمى الى الحزب الشيوعي العراقي منذ الخمسينات حتى عام 1963، تعرض خلالها للمطاردة بسبب نشاطه الفني المسيس. وبعد التخرج، تعرض للحجز مع كوكبة من المثقفين اليساريين في معسكر السعدية العسكري السيء الصيت. عمل في المحاماة لفترة، قبل التشرد بعدها في أوروبا بعد انتاج فيلم «سعيد افندي» في الفترة الأخيرة من العهد الملكي. بعد ثورة 14 تموز 1958، عاد مديراً عاماً لمصلحة السينما والمسرح حتى تعرضه للاعتقال والطرد من الوظيفة بعد انقلاب شباط 1963. سافر الى بيروت بعد الافراج عنه واقام فيها حتى عام 1967.
منذ بدايات عام 1944، وبعدما تعرف على زميله شهاب القصب الذي مات في مقتبل شبابه بمرض السل، تعاون معه في «مجموعة جبر الخواطر» التي كانت تقدم أعمالها في الحفلات السنوية للمدارس والمعاهد والكليات. كتبا بشكل مشترك أو منفصل احياناً، مسرحيات هزلية ذات فصل واحد، ثم بدأت كتاباتهما ترتقي الى مس الجروح الاجتماعية كالبطالة والجوع والعوز والمرض. هذه الكتابات اخذت تعمّق توجهاتها النقدية وفق ما يتيحه الوضع السياسي من فسحة في الحرية، أو عندما تتأزم الأمور الاجتماعية والسياسية، ويبرز تأثير الحركة الديمقراطية السياسية علناً في الشارع. تأثرا بشكل واضح بمسرحيات صفاء مصطفى الجريئة والرائدة، الذي سبقهم في مجال تأليف المسرحيات التي تتناول المشاكل الاجتماعية، وكانت تدعى آنذاك «بالمسرحيات اليسارية» التي كتب معظمها صفاء مصطفى لتقدم من قبل فرقة يحيى فائق بشكل خاص كمسرحية «طالب من الجنوب». أحبّ مسرح نجيب الريحاني الذي ذاعت اخباره وعروض الافلام المصرية المأخوذة عن مسرحياته، وأفلام شارلي شابلن الانسانية الصامتة. استمد مواضيعه من المشاكل الاجتماعية التي يراها ويتلمسها يومياً عند الحرفيين والعمال والعاطلين عن العمل وابناء الطبقة الوسطى، والناس المسحوقين. عرفهم والتقى بهم وخالطهم وارتبط مع بعضهم بصداقات شخصية، فراح يكتب المسرحيات الشعبية الواقعية التي يمتزج فيها الالم بالضحك والنقد.