بعد مرور سنتين على تشكيل رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، لجنةً لاقتراح تعديلات على قانون النقد والتسليف، تبيّن أن التعديلات المقترحة في المسودة تعكس هاجسين أساسيين: منع خلق رياض سلامة جديد، ومنع إقراض الدولة. فأتت التعديلات تجميلية «ليس فيها مساس بالهيكلية الأساسية التي تمنح حاكم مصرف لبنان صلاحيات، واستقلالية، وضمانات»، بحسب ما جاء في الأسباب الموجبة. لذا، سيبقى حاكم مصرف لبنان مطلق اليدين وقائداً أوحد لكل السياسات النقدية والمصرفية، إذ إن المواد الأكثر جدلية في قانون النقد والتسليف بقيت بلا تعديل، مثل المادتين 70 و71. أي، لن تتغيّر علاقة الحاكم بالحكومة، وسيبقى الآمر الناهي في الجهاز الإداري في المصرف، فهو الآمر الناهي إدارياً، يعيّن ويقيل الموظفين، ورئيس المجلس المركزي، ورئيس الهيئة المصرفية العليا، ورئيس الأسواق المالية، والمهيمن على لجنة الرقابة على المصارف.حاولت اللجنة، بلا جدوى، إخفاء عيوب قانون النقد والتسليف «الجسيمة»، بمساحيق التجميل. فأدخلت تعديلات طفيفة على مواصفات تعيين الحاكم ونوابه. وبحسب أوساط اللجنة، فإنه «بسبب سلوك رياض سلامة لجهة امتناعه عن الالتزام بمقررات المجلس المركزي»، ألزمت التعديلات على المادة 26 من قانون النقد والتسليف الحاكم بـ«بوجوب تنفيذ قرارات المجلس المركزي، والعودة إليه في كلّ ما يتعلق بالاتفاقيات الخارجية، مثل توقيع العقود والصكوك والاتفاقيات والتعاقد مع الفنيين والاستشاريين».
من جهة ثانية، ألغت التعديلات، اللجنة الاستشارية، وأنشأت لجنتين متخصّصتين: لجنة السياسة النقدية، ولجنة إدارة المخاطر. تتألف كلّ لجنة من 7 أعضاء، الحاكم ونوابه الأربعة وعضوين من خارج المصرف «من ذوي الاختصاصات في الشؤون القانونية أو المصرفية أو الاقتصادية والمالية»، بحسب المادة 36 من مشروع القانون المعدّل. وتختصّ لجنة السياسة النقدية في «تحديد معالم السياسة النقدية والائتمانية في مجالات ضبط معدلات التضخم، والحفاظ على استقرار سعر الصرف، والتحكم في العرض النقدي، وتحديد أسعار الفائدة»، بحسب المادة 35 المعدّلة. على أن تكون هذه اللجنة «المرجع الأساسي في تحديد معالم السياسة النقدية والائتمانية». إلا أن التعديلات لم تحدّد إلزامية آراء هذه اللجنة أم أنها ستكون استشارية حصراً، ولا سيما أن أكثرية أعضائها هم من إدارة «المركزي»، أي الحاكم ونوابه. أما لجنة إدارة المخاطر، فتختصّ في «وضع المعايير الاحترازية لضمان سلامة عمل القطاع المالي الخاضع لقانون النقد والتسليف»، ومن مهماتها «رصد نقاط الضعف والمخاطر في القطاع المالي، اقتراح السياسات اللازمة لاستباق المخاطر ووضع خطط الطوارئ».
سيبقى الحاكم حاكماً مطلق اليدين وقائداً لكل السياسات النقدية والمصرفية


ومن ناحية الرقابة على عمل المركزي، لم تأتِ التعديلات على تقليم أيّ من صلاحيات الحاكم، أو أقله زيادةً في صلاحيات الهيئات واللجان الموجودة أصلاً في المركزي. ميقاتي تحجّج بالمحاصصة الطائفية لمنع اللجنة من درس تعديلات كهذه. وفي هذا السياق، استحدثت اللجنة جهازاً رقابياً جديداً هو «هيئة التدقيق المستقلة» وعملها «مراقبة تقيّد أجهزة المركزي بالقوانين وقواعد السلوك، والإشراف على البيانات المالية، والتدقيق الداخلي، والتنسيق مع مفوضي المراقبة الخارجيين». ومنحت هذه الهيئة، بحسب المادة 46 من مشروع القانون المعدّل، استقلالية نسبية، فهي غير خاضعة لسلطة المصرف، وترفع تقاريرها مباشرةً لمجلس الوزراء بواسطة وزير المالية، ولها حق الاطلاع على جميع سجلات المركزي وحساباته من دون أن تتدخل في تسيير أعماله. وبحسب المادة 46، «تتكون هيئة التدقيق المستقلة من 5 أعضاء معيّنين من قبل الحكومة، ويتقاضون مخصصاتهم من المركزي» من دون أن يكونوا موظفين فيه.
أما لجهة التعامل مع الودائع وتمويل المصرف للدولة والقطاع العام، فقد عدّلت اللجنة المادة 98 من قانون النقد والتسليف وألغت إمكانية فتح حسابات للودائع بالعملات الأجنبية. واقتصرت الودائع على الليرة اللبنانية لقاء فوائد يحدد قيمتها المصرف، فيما أتاحت للمركزي فتح حسابات جارية للمصارف بالعملة الأجنبية على ألّا تتعدى قيمة هذا الحساب 5% من أموال المصرف الخاصة، على «ألا تنتج هذه الحسابات أيّ فوائد». كما أدخلت اللجنة تعديلات على النقد والتسليف تلزم بموجبها، المصرف المركزي، فصل الحسابات المتضمنة للاحتياطي الإلزامي عن سائر الحسابات، وطلبت إبراز حجم الاحتياطي في البيانات المالية وميزانية المركزي المعدّة للنشر.
وكرّست التعديلات مبدأ «عدم إمكانية التمويل للدولة إلا في حالات استثنائية، وضمن ضوابط صارمة»، بحسب ما ورد في الأسباب الموجبة لمشروع القانون. المادة 91 المعدلة ربطت إعطاء الحكومة تمويلاً من المركزي باستصدار قانون خاص يجيز لها ذلك، على أن يحدّد النص موضوع التمويل والمبلغ المطلوب. وحدّدت المادة 91 طريقة تصرّف المصرف بعد ورود طلب التمويل من الحكومة، فأتاحت له عدم الاستجابة مباشرةً، إذ يمكنه رفض الطلب من أساسه، أو درسه، واقتراح استبدال القرض الحكومي بوسائل أخرى كإصدار سندات دين داخلي أو خارجي. وفي حال قبِل المركز الطلب، فيمكنه تحديد الضمانات التي يريدها مقابل التمويل.



فصل الليرة عن الذهب
من ضمن التعديلات على قانون النقد والتسليف التي عملت عليها اللجنة، «تحديث المواد القانونية التي مرّ عليها الزمن»، وفقاً لما جاء في الأسباب الموجبة، لذا عدّلت المادة الثانية من القانون التي تربط سعر الليرة بالذهب. فبعد ارتباط وهمي دام 61 سنة، فكّ ارتباط الليرة بالذهب، وفرضت التعديلات تحديد سعر الصرف القانوني خاضعاً للعرض والطلب في السوق، على أن يحلّ السعر الجديد لليرة محلّ أيّ سعر آخر. لكن اشترطت المادة الثانية أن يضع المركزي آلية بالتنسيق مع وزير المالية تحدّد كيفية تغيّر السعر، وإلى حين وضع هذه الآلية، قضت المادة الثانية أن يقوم وزير المالية بإعلان سعر صرف الليرة بناءً على اقتراح مصرف لبنان.


صلاحية إصدار العملة الورقية
جرى تعديل المواد 4 و5 و6 من قانون النقد والتسليف، وهي النصوص القانونية التي تحكم قيمة العملة الورقية والمعدنية. فأدخلت اللجنة تعديلاً واحداً تكرّر في المواد الثلاث، يتيح للحكومة تعديل قيمة العملات بمرسوم يتّخذ في مجلس الوزراء، بناءً على اقتراح وزير المالية، وبناءً على طلب مصرف لبنان. ما يعني أنّه أصبح في إمكان الحكومة إصدار عملات ورقية أكبر من 100 ألف ليرة، فضلاً عن إصدار عملات معدنية بقيم مغايرة للعملات التي تمّ التداول بها في السنوات الـ25 الماضية، إذ أصبحت من دون قيمة حقيقية بعد الانهيار في 2019.