ينص ميثاق الأمم المتحدة على أن مجلس الأمن الدولي هو الهيئة الدولية الرئيسية الموكلة لها مهمة حفظ الأمن والسلم الدوليين عبر أدوات تحدّدت في الفصلين السادس والسابع من الميثاق. فبموجب الفصل السادس، يعمد مجلس الأمن إلى حلّ النزاعات الدولية عبر الطرق السلمية المتاحة وتكون قراراته ملزمة، ولكن من دون آلية تنفيذ جبرية. بينما في الفصل السابع لمجلس الأمن أن يتخذ إجراءات جبرية تصاعدية تبدأ بفرض عقوبات اقتصادية وتجارية وصولاً إلى قطع العلاقات الديبلوماسية بحسب المادة 41 من ميثاق الأمم المتحدة. وإذا رأى مجلس الأمن أن التدابير المنصوص عليها في المادة 41 لا تفي بالغرض أو ثبت أنها لم تف به، جاز له أن يتخذ بطريق القوات الجوية والبحرية والبرية من الأعمال ما يلزم لحفظ السلم والأمن الدوليين أو لإعادتهما إلى نصابهما (المادة 42). استخدم مجلس الأمن بشكل دوري عبر أعضائه الخمسة الدائمين حق النقض أو التهديد باستخدامه لعرقلة اتخاذ قرارات حاسمة، بينما تُرتكب جرائم فظيعة على نحو مستمر (كجرائم الإبادة وجرائم الحرب وضد الإنسانية). إن حالة «غزة» ليست هي الأولى التي تسجل فشلاً ذريعاً لمجلس الأمن الدولي، فقد سبقتها كمبوديا ورواندا ويوغوسلافيا السابقة ودارفور وغيرها، والسبب في عدم تمكّن مجلس الأمن من التدخل الفوري لوقف المجازر يعود إلى «الفيتو» الذي كان يسقط أي قرار باستخدام الفصل السابع لقمع الانتهاكات الجسيمة.
ولكن هل يُعدّ هذا الاستخدام لحق النقض في مسألة تتعلق بارتكاب جرائم فظيعة في حق الإنسانية متفقاً مع القانون الدولي؟

استخدام الفيتو أثناء ارتكاب جريمة الإبادة مخالف للقانون الدولي
الاستخدام غير المقيد لحق النقض أثناء حدوث الإبادة الجماعية و/أو الجرائم ضد الإنسانية و/أو جرائم الحرب، هو استخدام ينتهك القانون الدولي وذلك للأسباب القانونية الآتية:
أولاً، يخضع حق النقض، المنصوص عليه في المادة 27 (3) من ميثاق الأمم المتحدة، للقواعد الآمرة التي تعدّ من أعلى قواعد القانون الدولي، وبالتالي يجب ألا تتعارض نصوص ميثاق الأمم المتحدة معها. إن حظر الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب كلها معترف بها كقواعد آمرة. ويمكن القول إن هناك تناقضاً بين هذه الجرائم التي يفترض أنها تحظى بأعلى مستوى من الحماية بموجب القانون الدولي، وبين الاستخدام غير المقيد لحق النقض في ما يتعلق بها. ولذا، إن حق النقض، في مثل هذه الظروف، يُمكّن من استمرار ارتكاب مثل هذه الجرائم.
ثانياً، يقع حق النقض في سياق ميثاق الأمم المتحدة الذي يفرض في المادة 24 (2)، التزامات على مجلس الأمن بالتصرف وفقاً «لأغراض ومبادئ» الأمم المتحدة. ومن بين هذه المقاصد «ما يتفق مع مبادئ العدالة والقانون الدولي»، و«تعزيز وتشجيع احترام حقوق الإنسان»، و«التصرف بموجب ميثاق الأمم المتحدة بحسن نية». واستخدام حق النقض أثناء وقوع جرائم الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية، و/أو جرائم الحرب لا يتوافق مع أي من هذه الالتزامات، وبالتالي ينتهك «أغراض ومبادئ» الأمم المتحدة.
ثالثاً، هناك التزامات قانونية بموجب بعض المعاهدات ذات الصلة بالدول الأطراف فيها. وهي تشمل الالتزام بـ «منع» الإبادة الجماعية في المادة الأولى من اتفاقية الإبادة الجماعية، والالتزام بـ «ضمان» احترام اتفاقيات جنيف لعام 1949 في المادة الأولى المشتركة. وبالتالي فإن الدول الأعضاء الدائمة العضوية ملزمة ببذل العناية الواجبة على نحو فردي، وفقاً لقدراتها، وبناءً على مواقع نفوذها، بمحاولة منع الإبادة الجماعية، والتي يتم تفعيلها عندما يكون هناك خطر جدي بحدوث إبادة جماعية. وعليها التزامات مماثلة «لضمان» احترام اتفاقيات جنيف لعام 1949 (والبروتوكولين الأول والثالث للدول الأطراف فيها). إن استخدام حق النقض أثناء حدوث مثل هذه الجرائم ينتهك هذه الالتزامات التعاهدية.

تعليق استخدام الفيتو
لتفادي مخالفة القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة وسعياً إلى إصلاح عمل مجلس الأمن الدولي بعيداً من آليات التعديل المعقّدة والتي تتطلب أيضاً موافقة الأعضاء الخمسة الدائمين، طُرحت مبادرات دولية تبنّتها مجموعة من الدول من أجل تقييد استخدام حق النقض عبر تعليق استخدامه طواعية من قبل الأعضاء الخمس في الحالات المتعلقة بارتكاب جرائم فظيعة (كالإبادة وجرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية). وقد وجهت رسالة رسمية إلى الأمين العام للأمم المتحدة مؤرّخة في 14 كانون الأول من عام 2015 تبلّغه إصدار مدوّنة قواعد السلوك التي تم تبنّيها في 23 تشرين الأول من العام نفسه بمناسبة الاحتفال بالذكرى السبعين لإنشاء الأمم المتحدة. أعدّ المدوّنة فريق مكوّن من 24 دولة عضو في الأمم المتحدة يُعرف باسم فريق المساءلة والاتساق والشفافية، وبموجب المدوّنة تتعهد الدول تعهداً عاماً وحازماً بدعم ما يتخذه مجلس الأمن من إجراءات ضد الإبادة الجماعية والجرائم المرتكبة ضد الإنسانية وجرائم الحرب بهدف منع وقوعها ووضع حد لها، وتحديداً تتعهد بعدم التصويت ضد مشاريع قرارات مجلس الأمن التي تحظى بالمصداقية، وتهدف إلى منع وقوع تلك الجرائم. ويتم اللجوء إلى تطبيق مدوّنة قواعد السلوك في أي حالة تنطوي على تلك الجرائم. ويضطلع الأمين العام بدور هام في توجيه انتباه المجلس إلى تلك الحالات، ويكون لتقديره الحالة وزن كبير. وقد حظيت المدونة بتأييد 120 دولة من بينها فرنسا والمملكة المتحدة.
يفترض أن الحرب الهمجية التي تشنها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني اليوم في غزة مسألة تهدّد الأمن والسلم الدوليين، وكان من المفترض أن يستعمل مجلس الأمن صلاحياته ضمن الفصل السابع، وكان من الممكن إنقاذ الآلاف من القتل المحتّم في غزة. لكن الفيتو الأميركي بالتأكيد لن يُمكّن مجلس الأمن من القيام بصلاحياته. لقد استخدمت الولايات المتحدة حق النقض تسعين مرة وكان ثلث أصواتها السلبية منذ عام 1972 ضد القرارات التي تنتقد إسرائيل، وآخرها كان في 8 كانون الأول/ ديسمبر 2023، ضد قرار لمجلس الأمن الذي دعا إلى وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس، لأنه لم يتضمن لغة تدين حماس بسبب هجماتها. إلى اليوم لم تعترف الولايات المتحدة بأن ما ترتكبه إسرائيل يشكل جريمة إبادة او انتهاكاً جسيماً لقواعد القانون الدولي الإنساني، وهي بالتأكيد لن تبادر إلى فرض عقوبات على حليفتها أو تطالب بإحالة الوضع في غزة إلى الفصل السابع، ولن تقبل الولايات المتحدة أن يُفرض على إسرائيل تنفيذ التدابير المؤقتة التي أمرت بها محكمة العدل الدولية، سواء تلك التي صدرت في 26 كانون الثاني/ يناير أو تلك التي صدرت في 24 أيار/ مايو 2024. لذا من المستبعد أن تقبل الولايات المتحدة اتخاذ إجراءات ضد إسرائيل ضمن الفصل السابع، وخصوصاً أن دولاً مثل فرنسا وبريطانيا إضافة إلى الولايات المتحدة قد وقفت إلى جانب ادعاءات إسرائيل، وأيّدت حقها في الدفاع عن نفسها رغم شجب دول العالم الأخرى واستنكارها الفظائع التي ترتكبها إسرائيل تحت شعار الدفاع عن النفس. فهل من بديل عن مجلس الأمن لوقف الجرائم الإسرائيلية؟

الجمعية العامة والقرار 377
ينص القرار 377 الصادر في 3 تشرين الثاني/ نوفمبر من عام 1950 والمعروف باسم «الاتحاد من أجل السلام» على أنه «إذا لم يتمكن مجلس الأمن، بسبب عدم إجماع أعضائه الدائمين، من مباشرة مسؤوليته الرئيسية في حفظ السلام والأمن الدوليين في ما يخص أي حالة يظهر فيها تهديد للسلم، أو إخلال بالسلم، أو وقوع عمل من أعمال العدوان، تنظر الجمعية العامة في المسألة على الفور بهدف تقديم توصيات مناسبة إلى الأعضاء من أجل اتخاذ تدابير جماعية، بما في ذلك استخدام القوة المسلحة في حالة الإخلال بالسلم أو وقع عمل من أعمال العدوان، وذلك لحفظ السلم والأمن الدوليين أو إعادتهما إلى نصابهما. إذا لم تكن الجمعية العامة منعقدة في ذلك الوقت، فيمكن أن تنعقد في دورة استثنائية طارئة خلال أربع وعشرين ساعة من تلقي طلب بعقد مثل هذه الدورة. وتنعقد مثل هذه الدورة الاستثنائية إذا ما طلب عقدها أية سبعة أعضاء في مجلس الأمن أو غالبية الدول الأعضاء في الأمم المتحدة».
بموجب هذا القرار تمكّنت الجمعية العامة أن تحل محل مجلس الأمن لتصدر قرارها رقم 3256 /أ بوقف الأعمال العدائية ضد مصر إبان العدوان الثلاثي عليها عام 1956، والذي دعا الأطراف كافة إلى الالتزام فوراً بوقف إطلاق النار والانسحاب العاجل للقوات الإسرائيلية. وقد تبعه قرار آخر تمثل بإنشاء أول قوة طوارئ دولية في الشرق الأوسط بموافقة الأطراف المعنية للإشراف على وقف إطلاق النار.
استخدام حق النقض أثناء وقوع جرائم الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية، و/أو جرائم الحرب ينتهك «أغراض ومبادئ» الأمم المتحدة


سيناريو مماثل قد يتكرر اليوم بموجب قرار 377. علماً أن الدورة العاشرة الطارئة للجمعية العامة التي تتناول قضية الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية قد بدأت منذ عام 1997 وما زالت لم تُختم بعد. وقد تقدمت فعلاً مصر وموريتانيا بصفتهما رئيسَي المجموعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، بموجب قرار 377 بطلب رسمي لعقد اجتماع عاجل للجمعية العامة للأمم المتحدة، عقب فشل مجلس الامن في إصدار قرار بوقف إطلاق النار في غزة، تمخّض عنه صدور قرار الجمعية العامة في 23 ديسمبر/ كانون الأول 2023 بوقف إطلاق النار وإدخال المساعدات إلى غزة بغالبية ساحقة، وذلك بموافقة 153 دولة. فليس هنالك ما يمنع من أن يتم اللجوء إلى الجمعية العامة بموجب قرار 377 لإصدار قرار دولي يلزم إسرائيل بتنفيذ ما يأتي:
أولاً: وقف العمليات العسكرية في غزة تنفيذاً للتدابير المؤقتة التي صدرت عن محكمة العدل الدولية، وتنفيذاً لقرارات وقف إطلاق النار الصادرة عن مجلس الأمن بتاريخ 25 مارس/ آذار و10 يونيو/ حزيران 2024، وقراري الجمعية العامة الصادرين في 27 أكتوبر 2023 و23 ديسمبر من العام نفسه.
ثانياً: تطبيق إجراءات تصعيدية جماعية ضد إسرائيل تشمل فرض عقوبات اقتصادية وتجارية عليها عملاً بأحكام الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، ومن بينها حظر توريد الأسلحة وقطع العلاقات الاقتصادية والثقافية والتجارية معها لانتهاكها القانون الدولي الإنساني.
ثالثاً: إنشاء تحالف دولي عسكري مهمته الإشراف على وقف إطلاق النار وإنهاء العمليات العسكرية وتأمين دخول المساعدات الإنسانية ومواكبتها، وخصوصاً من معبر رفح تنفيذاً لأوامر محكمة العدل الدولية.