لا تزال حرب الإبادة مستمرة على غزة منذ أكثر من 235 يوماً. حرب وصلت أصوات إدانتها إلى أروقة جامعات الدول الغربية من فرنسا وهولندا وبريطانيا حتى الولايات المتحدة. أصوات تحاول الحكومات إخراسها عبر استعمال أشد أنواع العنف. الدول التي شنت حروباً باسم الحرية والعدالة والديمقراطية ها هي تشن حرباً على أبنائها لمجرد رفضهم لحرب إبادة. وحشية الشرطة الأميركية اتجاه الطلاب والمتظاهرين المعتصمين وحتى الأساتذة الجامعيين هي نفسها في كل الجامعات الأميركية، فهل تصرفات قوى إنفاذ القانون في كل تلك الجامعات هو محض مصادفة؟ أم نتيجة إعداد وتدريبات سابقة؟ يتناول هذا المقال العلاقة بين الشرطة الأميركية والشرطة الإسرائيلية وكيف تؤثر على تصرفات الشرطة الأميركية داخل مجتمعها.«أنت تؤيد الإبادة!»، قالت إحدى طالبات جامعة نيويورك لعنصر الشرطة الذي يحاول فض المظاهرة، فنظر الشرطي إلى الكاميرات وكان جوابه بنبرة هادئة «نعم أنا أؤيد الإبادة، وأؤيد قتلكم جميعاً»، لتفاجأ الطالبة وتوجه إليه سؤالاً آخر: «أنت تريد قتلنا؟»، فيجيب الشرطي أمام الكاميرات مرة أخرى: «نعم، نعم». المشهد نفسه تكرر في عدة جامعات أميركية، باستخدام العنف الجسدي واللفظي من قبل عناصر الشرطة، وفي إعلان رجال الشرطة بشكل صريح تضامنهم مع العدو الإسرائيلي. فلماذا نشهد هذا التعاطف من قبل رجال الضابطة العدلية الأميركية مع إسرائيل؟

برامج تدريبية في إسرائيل
لا تقتصر برامج التدريب على الحكومتين الأميركية والإسرائيلية، بل تضاف إليها الوكالات والشركات الخاصة.
تلعب هذه المنظمات دوراً في تسهيل التدريبات المشتركة، ومن بينها: منظمة مكافحة التشهير (ADL) والمعهد اليهودي لشؤون الأمن القومي (JINSA) واللجنة اليهودية الأميركية (AJC)، ومؤسسة التعليم الأميركية الإسرائيلية وهي عضو في لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية (AIPAC). ولدى هذه المنظمات برامج طويلة الأمد لتعزيز تدريب رجال الإنفاذ للقانون الأميركيين في إسرائيل وتسهيله تحت شعار «مكافحة الإرهاب». يتم تمويل الرحلات عموماً من القطاع الخاص وهي مجانية للمشاركين. ومنذ عام 2002، قامت رابطة مكافحة التشهير ومشروع التبادل التابع للجنة اليهودية الأميركية والمعهد اليهودي لشؤون الأمن القومي بدفع تكاليف التدريب لرؤساء الشرطة ومساعديهم في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وأشار تقرير منظمة العفو الدولية إلى أن المشاركين هم رجال ونساء إنفاذ القانون من مختلف ولايات ومدن الولايات المتحدة، منها: بالتيمور وفلوريدا ونيو جيرسي وبنسلفانيا وكاليفورنيا وأريزونا وكونيكتيكت ونيويورك وماساتشوستس وكارولاينا الشمالية وجورجيا وولاية واشنطن. كما شارك جميع أفراد شرطة العاصمة. وأشار التقرير إلى تلقي آلاف آخرين تدريباً من مسؤولين إسرائيليين داخل الولايات المتحدة.

ADL لمكافحة الإرهاب
تعتبر رابطة مكافحة التشهير إحدى أهم المنظمات التي تسهم في إرسال أفراد الضابطة العدلية الأميركية لتلقي تدريبات في إسرائيل. وهي منظمة تأسست عام 1913 وهي (كما تشير عبر موقعها) مكرسة لمكافحة معاداة السامية والدفاع عن إسرائيل. ولم يقتصر دور منظمة ADL على إرسال رجال الشرطة الأميركيين للتدريب في الأراضي المحتلة بل أسهمت في مراقبة النشطاء وإدراجهم في القائمة السوداء واستهدافهم بسبب منشورات معادية للسامية. وأرسلت المنظمة مئات من كبار المسؤولين الأميركيين إلى إسرائيل منذ بداية البرنامج في 2003 ووصل عدد المشاركين إلى الـ1000، بما في ذلك مسؤولون فيدراليون من الجمارك وحماية الحدود، وهيئة إنفاذ قوانين الهجرة ومختلف وكالات القانون في المدن والولايات.
وموّلت رابطة مكافحة التشهير منذ عام 2004، إحضار مجموعات صغيرة من كبار قادة إنفاذ القانون الأميركيين إلى إسرائيل لحضور ندوة مدتها أسبوع تهدف إلى «زيادة فهمهم للعنف المتطرف والإرهابي». تشمل هذه الندوة جلسات إحاطة وعروض تقديمية وزيارات ميدانية، ما يسمح للمشاركين بالالتقاء بنظرائهم في الشرطة الإسرائيلية «INP» وتلقي دروس في منع الهجمات الإرهابية والرد عليها وتعزيز قدرة المجتمع على الصمود في مواجهة تلك الهجمات. وتدرب الندوة المشاركين على بناء المرونة المجتمعية، وإعادة المجتمعات المتضررة بسرعة إلى حالة طبيعية بعد أي حادثة. ويشارك الضباط في جولة داخل نظام المراقبة الإسرائيلي في القدس الشرقية. وتؤكد الرحلات التبادلَ الفعّال للمعلومات الاستخبارية بين الجيش والشرطة الإسرائيلية، فضلاً عن أهمية وجود إجراءات محددة معمول بها عند المعابر الحدودية في الضفة الغربية للفلسطينيين الذين يدخلون إسرائيل. وتزور الوفود أيضاً أكاديمية الشرطة الوطنية الإسرائيلية، حيث يطلعون على التدريب العملي.
شارك في هذه الرحلات أكثر من 1000 ضابط عدلي. وتقول مذكرة ADL إن كل رحلة تصل كلفتها إلى 115 ألف دولار، وقد خصصت المنظمة لها ما يزيد عن 200 ألف دولار سنوياً.

تجربة العمر…
في المقابلات التي أجريت مع رجال ونساء إنفاذ القانون في الولايات المتحدة، عبّر هؤلاء عن إعجابهم بالنهج الإسرائيلي في مكافحة الإرهاب والمراقبة. وأقرّوا بأن التقنيات الإسرائيلية قد تكون لها آثار مقلقة على الحريات المدنية.
ويقول بيل أيوب، عمدة مقاطعة فينتورا في جنوب كاليفورنيا، الذي ذهب إلى إسرائيل في رحلة نظّمتها ADL عام 2017، إن الإسرائيليين «مبتكرون جداً، بدافع الضرورة، في التكنولوجيا والتدابير اللازمة لتوفير الأمن والكشف عن السلوك التهديدي والسلوك الإجرامي»، وعبّر عن إعجابه بأنظمة المراقبة «الهوليوودية» التي يمكنها تسجيل تحركات الأشخاص وتتبعها والاستماع إلى المحادثات. واعترف أيوب أن أساليب الشرطة الإسرائيلية تعتبر أكثر عدوانية مما قد تراه في الولايات المتحدة، ووصف استخدام القوة أثناء الاعتقالات بأنه صادم. وعلق على إحدى عمليات الاعتقال: «واو، هل فعلاً تفعل ذلك؟ سنكون في السجن إذا فعلنا مثل هذا الشيء هنا». وأضاف أن تكتيكات المراقبة التي تتبعها قوات الأمن الإسرائيلية سمحت بالتعامل بشكل جيد مع المشكلات التي قد يسببها المجرمون في الولايات المتحدة. وأشار إلى أن التبادل مع شرطة العدو الإسرائيلي «وسّع وجهة نظري».
كما أثار مشارك آخر في برامج رابطة مكافحة التشهير، وهو نائب رئيس شرطة سانتا باربرا كريغ بونر، تساؤلات عما إذا كانت الإستراتيجيات والتقنيات التي قدمها المسؤولون عن إنفاذ القانون الإسرائيلي مناسبة للسياق الأميركي، بعد ما أشاد بتدريب رابطة مكافحة التشهير. منذ ما يقارب السبع سنوات، حضر بونر دورات تدريبية داخل مقر ADL في واشنطن، تضمنت برامج مماثلة لبرنامج الرحلة إلى إسرائيل. وقال إنه مهتم بشكل خاص بالتكتيك الإسرائيلي المتمثل في وضع ضباط سريّين مسلحين في وسائل النقل العام كإجراء لمكافحة الإرهاب. وفي الوقت نفسه، أشار إلى أن بعض التدابير للشرطة الإسرائيلية عدوانية، ومن المرجح أن تكون محظورة في الولايات المتحدة. وقال: «هل مجتمعنا مستعد لأي مستوى إضافي من تدابير الشرطة الأميركية؟ الجواب هو لا. في كثير من الحالات، الأشياء التي يتم القيام بها هناك ببساطة غير مسموح بها بموجب القانون و/أو الدستور».
وعبّر لو ديكمار، رئيس شرطة لاغرانج جورجيا، والرئيس السابق للرابطة الدولية لرؤساء الشرطة، الذي تولى رئاسة الشرطة في لاغرانج وشارك في عدة وفود زارت إسرائيل عن إعجابه بطريقة عمل الشرطة الإسرائيلية «بشكل عام، وفي مواجهة هذا النوع من التهديدات، ما زالوا صامدين».
وتتذكر رئيسة قسم الشرطة في مدينة بيتشتري جورجيا، جانيت مون، التي زارت إسرائيل مع معهد فريدمان عام 2015، مشاهدة التدريب على كيفية إطلاق ضباط الشرطة النار على مركبة متحركة. وقالت: «بغض النظر عن المكان الذي تذهب إليه في العالم، فإن تطبيق القانون هو تطبيق القانون». وأضافت: «إنهم يواجهون التحديات نفسها في ما يتعلق بالميزانية وتخصيص الموارد والشرطة المجتمعية. لقد تعاملوا مع الإرهاب لمدة أطول بكثير مما لدينا».
كما تؤكد كاثي لانيير، الرئيسة السابقة لقسم شرطة العاصمة في واشنطن، أن «لم يكن لأي تجربة في حياتي تأثير أكبر على أداء وظيفتي من تجربة الذهاب إلى إسرائيل»، فيما صرّح بوب بروكس، عمدة مقاطعة فينتورا السابق في ولاية كاليفورنيا، بـ«أنني عدت إلى المنزل مع دفتر ملاحظات مليء بالأفكار العملية التي يجب تنفيذها في جهودي للحفاظ على سلطتي القضائية بشكل آمن».

التبادل المميت
التقرير الذي أعدته أبحاث التحالف الأميركي الإسرائيلي بالشراكة مع الصوت اليهودي من أجل السلام بعنوان «التبادل المميت، العواقب الخطيرة للتدريبات الأميركية على تطبيق القانون في إسرائيل» عام 2018، ذكر كيف عززت الشراكة بين الجيش والشرطة والمخابرات الإسرائيلية من جهة مع رجال إنفاذ القانون الأميركي من جهة أخرى الممارسات التالية:
• توسيع المراقبة: بما في ذلك مراقبة بصرية شاملة في الأماكن العامة وعلى شبكة التواصل الاجتماعي، ومراقبة الحركات الاجتماعية.
• تبرير التنميط العنصري: تعزيز مراقبة الأشخاص ذوي البشرة السوداء والسمراء كمشتبه بهم، وخصوصاً العرب والمسلمين.
• قمع الاحتجاجات العامة عبر استخدام القوة: معاملة المتظاهرين كأعداء ومقاتلين والسيطرة على التغطية الإعلامية.
وأفاد التقرير أن ما تعلمته سلطات إنفاذ القانون الأميركية من الشرطة الإسرائيلية هو اعتبار جميع المواطنين مشتبه بهم.
وقد بدأت سلطات إنفاذ القانون الأميركية في ربط أعمال الإرهاب بالجرائم الصغيرة. وأوضح جون جايسرت، الرئيس السابق لشرطة التجارة، أنه تعلّم في إسرائيل أن «جميع الإرهابيين يرتكبون جرائم صغيرة قبل أن ينتقلوا إلى ارتكاب جرائم كبيرة». واعتبر أن «المخالفات المرورية، واستعمال هوية مزوّرة أو إعطاء معلومات كاذبة، من المفترض اعتبارها مؤشرات لإرهابي».
ما تعلمته سلطات إنفاذ القانون الأميركية من الشرطة الإسرائيلية هي اعتبار جميع المواطنين مشتبه بهم


ويشير التقرير إلى أن رجال الشرطة الأميركية يتدربون على يد من يمنع وبشكل قاطع أي شكل من أشكال الاحتجاجات الفلسطينية، وعلى يد من ينكر على الفلسطينيين حقهم في العيش ضمن الأراضي المحتلة ويمنعهم من التعبير عن رفضهم للنظام العسكري. وعلى يد من يجرّم جميع الوقفات الاحتجاجية من المسيرات والمظاهرات الفلسطينية.
وينقل التقرير عن مساعد رئيس الشرطة في سان دييغو والت فاسكويز أنه تعلم من المناقشات التي دارت مع الشرطة الإسرائيلية تكتيكات السيطرة على الحشود. ووصف براد فيرجو، من إدارة شرطة مقاطعة أورانج، نظراءه الإسرائيليين، بأنهم «يتقنون التعامل بشكل مذهل مع حشود كبيرة في أي لحظة». وأشار رئيس شرطة ولاية ماين روبرت ويليامز إلى أوجه تشابه واضحة بين الأميركيين واهتمام الحكومات الإسرائيلية باحتواء «الاضطرابات المدنية»، وأُعجب بالخبرة الإسرائيلية في مجال إنفاذ القانون وخصائصها.

إعجاب متبادل
تم تعزيز التدريبات الإسرائيلية لمكافحة الإرهاب لضباط إنفاذ القانون الأميركيين بعد أحداث 11 أيلول عبر الوفود والمؤتمرات وإنشاء فرع لشرطة نيويورك بالقرب من تل أبيب. لكن التبادلات بين سلطات إنفاذ القانون الأميركية والإسرائيلية سبقت الحرب على الإرهاب. وكانت منذ زمن طويل متعددة الاتجاهات. في أواخر التسعينيات، قام مفوض الشرطة الإسرائيلية باستيراد نظام CompStat وهو نظام لإدارة الشرطة، أنشأته إدارة شرطة مدينة نيويورك عام 1994. وأيّد مسؤولون آخرون في الشرطة الإسرائيلية «الشرطة المجتمعية» التي تشبه العصابات الاستيطانية.