على «فيسبوك»، حيث الفضاء مفتوح «نسبيًّا» للتفاعل مع البيانات الرسمية، يظهر التنوع في جمهور الصفحة الافتراضي الكبير. فهناك من يحكمه الهاجس الدائم من عودة الحرب وسطوة الميليشيات فلا يملك سوى التصفيق لكل ما يتعلق بـ«الشرعية» و«الدولة» و«المؤسسات» بمعزل عن تفاصيل الخبر أو البيان المنشور، وهناك المطّلع على التفاصيل الذي يشكّك أو يصوّب أو يدحض الرواية الرسميّة مقدّماً ما لديه من حجج وأدلة وبراهين على هشاشتها، وهناك من لا يرى أي إنجاز يُذكَر في القبض يومياً على عصابات السلب والسرقة والقتل والاتجار بالمخدرات، مع كل ما ينطوي عليه الأمر من مخاطرة من قبل عناصر يعيشون أوضاعاً حياتية بالغة الصعوبة، طالما لم يسبق ذلك اعتقال جميع السياسيين الفاسدين وسوقهم فوراً إلى السجون، سائلاً بجدية وإلحاح عن موعد تحقيق ذلك، مفترضاً أن تحقيق حلمه بـ«الجمهورية الفاضلة» لا يعيقه سوى أن يشاركه إياه عناصر قوى الأمن أو قيادة مؤسستهم

تعنى «شعبة العلاقات العامة» المسؤولة عن «الإعلام الأمني»، وفقاً للمادة 17 من المرسوم الرقم 1157 الصادر في 2/5/1991 (تحديد التنظيم العضوي لقوى الأمن الداخلي)، بتنمية العلاقة بين قوى الأمن الداخلي ووسائل الإعلام، وتوثيق العلاقة بين رجال قوى الأمن الداخلي والمواطنين، وتزويد وسائل الإعلام بكل ما يتعلق بنشاطات قوى الأمن الداخلي، بالإضافة إلى مهام أخرى متنوعة.
لا يختلف حال «الشعبة»، على أرض الواقع، عن حال الإعلام الرسمي في كل مكان وزمان، طالما المهمة واحدة تقريباً: إسباغ المثالية على واقع ليس مثاليّاً البتّة، من خلال التركيز على وقائع معيّنة، وتغييب أخرى، وتكذيب أي نقد سلبي مع تجاهل الأدلة عليه، وتصدير صور ذات طابع إنساني (مساعدة العجائز في اجتياز الطريق، وملاطفة الأطفال، وإزالة العوائق من الطرقات وغيرها...)، وهي صور يُفترَض أنها عفوية ولكنها سرعان ما تترك لدى المتلقي انطباعاً بأنَّها أُعدّت بعناية لتوثيق لحظات مرغوب بتخليدها دون غيرها، وهو انطباع يتحوّل إلى مسلّمة حين نعلم أن الشعبة تطلب هذه الصور بشكل مسبق من القطعات العملانية (مخافر وفصائل ومفارز سير وطوارئ وخلافه...) بموجب برقيات رسمية تصدر عن المديرية في كل مناسبة (أعياد، واحتفالات، وتظاهرات...).
ربما لا يمكن توقع خلاف ذلك، وانتظار الالتزام التام بمعايير الموضوعية والمهنية من وسيلة إعلامية تمثل جهة رسمية تفرض عليها مهامها وطبيعة عملها الدفاع الدائم عن نفسها، خصوصاً حين تجد نفسها طرفاً في نزاعات تتحوّل إلى قضايا رأي عام، وتملك حولها سردية مقابل سردية مضادة بطبيعة الحال.

(هيثم الموسوي)

ولعل أكثر تمظهرات هذا الواقع تجلياً هو ما حصل في الفترة التي تلت انطلاق حراك 17 تشرين، مع الصدامات العنيفة التي تكررت بين عناصر قوى الأمن ومحتجين وأدت إلى سقوط جرحى في حالات كثيرة. كان المحتجون ومن خلفهم «وسائل إعلام الثورة» يتهمون القوى الأمنية بممارسة العنف ابتداءً، وترد قوى الأمن عبر شعبة العلاقات العامة بسردية واحدة تضع الأمر كل مرة في إطار دفاع عناصرها عن أنفسهم في وجه أعمال الشغب والرشق بالحجارة والمفرقعات النارية التي تطاولهم أثناء دفاعهم عن الأملاك العامة والخاصَّة.
والحقيقة أن سلوك المتظاهرين في كثير من هذه الحالات كان يستدعي أسئلة مشروعة حول توقيته وظروفه وهوية المجموعات المسؤولة عنه وارتباطاتها، وأن رواية قوى الأمن كانت في هذه الحالات أقرب إلى الدقة وأكثر إقناعاً، ولم ينقصها سوى إغفالها الانفعال المفرط لأفراد غير مدربين كفاية على التعامل مع شتائم تطاولهم بصورة شخصية بوصفهم «مدافعين عن النظام»، في الوقت الذي يرون أنهم آخر من يمكن تحميله مسؤولية الواقع الذي وصلت إليه البلاد في ظل منعهم من أبسط حقوقهم الديمقراطية وهو المشاركة في الاقتراع، وأنهم أكثر فئات المجتمع تضرراً مع تآكل قيمة رواتبهم مع كل انهيار إضافي في سعر الصرف وانحدار وضعهم المعيشي إلى هوة بلا قعر تتجاوز بكثير ما يعانيه غيرهم من موظفي الإدارة العامة والأساتذة على سبيل المثال لا الحصر.
المفارقة هنا، هي أن دفاع قوى الأمن عن سلوك عناصرها في كل مناسبة، من الإشكالات الفردية إلى حالات الشغب والصدامات الجماعية، ليس في واقع الأمر سوى دفاع عن قيادة المؤسسة وسياستها ورأس الهرم فيها، وهو ما تؤكده بيانات للشعبة تبرّئ المؤسسة تماماً من تجاوز معيّن اتهمت فيه، وتحمّل المسؤولية عن «الحادثة» كاملة للطرف الآخر، ثم تشير في الختام إلى معاقبة العنصر الذي تسبّب أو شارك أو كان طرفاً في هذه الحادثة.

إعلام إلكتروني
الحقيقة أن سذاجة البعض في مقاربتهم للأمور وتجاهلهم واقع البلاد السياسي والأمني وتركيبتها ودور المؤسسات الأمنية فيها وصلاحياتها، لا يعفي قوى الأمن وإعلامها من تهمة المبالغة في إظهار المثاليّة إلى حد الاستفزاز أحياناً. ومن الأمثلة على ذلك تسليط الضوء بشكل مفرط على أمور ليست في صدارة اهتمام المواطن الرازح تحت وطأة أزمة معيشيّة خانقة، كالإعلان يوميّاً عن أخبار تحرير حيوانات وطيور محتجزة بشكل غير قانوني، بما يوحي بأن هذا النوع من المهام بات الشغل الشاغل للمؤسسة بضبّاطها ورتبائها وأفرادها. ولأن مفاهيم كالإنسانية والرحمة لا تتجزأ ولا تخضع لظروف أو مواقيت، فإنه ليس مطروحاً مطالبة قوى الأمن بالكف عن ذلك وترك الحيوانات والطيور لمصيرها، لكن الحديث هنا هو عن الشق الإعلامي «الاستعراضي» في المسألة فقط، وعن الحاجة إلى مراعاة قوى الأمن في بياناتها لمشاعر البشر القاطنين ضمن نطاق عملها والمعرّضين بشكل متزايد إلى مخاطر على حياتهم بسبب ارتفاع معدلات الجريمة وتزايد حالات الانتحار وانهيار المنظومة الصحية وانتشار الجوع، خصوصاً حين تكون عاجزة عن توفير ما يستحقونه ويطلبونه ويقع في صميم دورها من حماية وأمن وأمان. والمفارقة أن في طليعة المتضررين من هذا الواقع المأزوم هم عناصرها وأفراد عائلاتهم.

بوم وكلاب ومساعدات مدرسية
في هذا المجال تحديداً، لا تكتفي شعبة العلاقات العامة بـ«تظهير» إنجازات قطعات المؤسسة كما جرت العادة، بل تتولى أيضاً «صناعة» هذه الإنجازات عن طريق تلقي الشكاوى من الجمعيات ونقلها إلى المخفر المعني مع إيعاز بالتحرك الفوري (وأغلبها تتعلق باحتجاز طائر البوم وعرضه للبيع عبر وسائط التواصل الاجتماعي)، وبمجرد تحقيق نتيجة إيجابية يُصاغ الخبر ويُنشر في بيان رسمي.
سذاجة البعض في مقاربتهم للأمور وتجاهلهم واقع البلاد لا يعفي قوى الأمن وإعلامها من تهمة المبالغة في إظهار المثاليّة


وفي هذا الإطار، سُجِّلَ قبل أيام جرّ رجل مسن، في إحدى قرى بنت جبيل، لكلب بواسطة سيارته بعد ربطه بحبل (زعم لاحقاً أنه لم يقصد إيذاء الكلب بل الاكتفاء بنقله إلى مكان بعيد بعد تعرّضه لأحفاده، وأنه تعمّد قيادة سيارته بسرعة متدنية لتفادي إلحاق الأذى بالكلب)، ولدى تواصل شعبة العلاقات العامة مع المخفر المعني لتكليفه بمتابعة الموضوع وتوقيف صاحب العلاقة بالتنسيق مع القضاء، سأل رتيب التحقيق الذي تولى الإجابة على الاتصال، المتصلَ، وهو زميل له يعمل في «الشعبة»، عن جمعية مماثلة يمكنها أن تتوسّط له لدى مديريته لإعادة أولاده إلى مدرستهم بعد طردهم منها إثر تأخره في دفع الأقساط عن العام الدراسي الماضي، علماً أن سبب تأخره هو عدم حصوله على المساعدة المدرسية المنتظَرة التي يرجّح ألا تتجاوز 30% من قيمة القسط، والتي لم تفرج عنها المديرية (حتى صدور هذا العدد)، في سابقة لم تحصل من قبل.

«إيموجي»
تحذّر الصفحة الرسمية للمديرية العامة لقوى الأمن الداخلي على «فيسبوك» روّادها من استخدام العبارات النابية أو المسيئة لأي شخص أو جهة، ومن نشر الصور المخلة بالآداب، والشعارات السياسية والدينية والحزبية تحت طائلة حذف التعليقات المخالفة، وهذا (حذف التعليقات) متاح تقنيّاً بطبيعة الحال، ولكن الأمر نفسه لا يسري على اختيار المتابعين للرموز التعبيرية (الإيموجيز). هكذا تطغى أيقونة «الوجه الضاحك» على سواها في التفاعل مع منشورات يفترَض أنَّها جدية تماماً! لعل هذا يعكس -بصورةٍ ما- علاقة الثقة المفقودة بين مواطن يعيش ظروفاً صعبة ومؤسسة أمنية تحاول كسب ثقته وسط ظروف خاصَّة لا تقلّ صعوبةً. نظرة الجمهور المستهدَف من هذه المحاولات قد يختصرها تعليق تركه أحدهم أسفل أحد منشوراتها: «هني المواطنين زعران... بس إنتو ملايكة بلا جوانح».

#هاشتاغ
تنشط الصفحة في إطلاق وسوم مختلفة مع كل منشور بحسب طبيعة المناسبة أو الحملة التي يتزامن معها، من قبيل: #ما_تشرب_وتسوق، و#تسبح_بخير، و#تعاطيك_بينهيك، و#تجار_الموت، و#شتي_يا_دنيي، و#زغير_البيت، و#صورناك، والأخيران تقوم فكرتهما على تصوير المواطن لأي سيارة يخالف سائقها قانون السير لجهة السماح لأطفاله بالخروج من النوافذ أو الفتحة العُلوية بشكل يعرض حياتهم للخطر، وإرسال الصورة إلى صفحة قوى الأمن التي تتخذ قطعاتها إجراءً بحق المخالف وتقوم بنشر الصورة بعد تمويهها، وقد شهدت الحملة تفاعلاً كبيراً من المواطنين، الأمر الذي رأى فيه بعض المتابعين -بعيداً من الجانب الإيجابي لها والذي لا يمكن تجاهله- انعكاساً لعادة أصيلة لدى المواطن اللبناني هي الوشاية بغيره وتملّق الأجهزة الأمنية طمعاً في نيل رضاها.