قبل قرابة عقدين من الزمن وقعت إحدى الأزمات الوجودية العديدة للكيان اللبناني الهشّ، وانشطر الشعب ثمانيةً وأربعة عشر. حينها، هرع زعماء الكيان إلى طاولات حوار حرصاً على ألّا ينقلب الانشطار احتراباً أهلياً. للأسف لم تنجح الحوارات في ضبط الأنفاس، وحصلت «ميني» حرب أهلية لاحقاً.لكن، دعونا من الماضي، ولنركّز على الحاضر. الأزمة الوجودية اليوم للبنان، الوطن الذي اخترناه حبّاً وطواعيّة، أكبر من أي وقت مضى، ورغم ذلك لا يهرع أحدٌ إلى أي طاولة أو حوار. هو فعلاً مهدّد بالزوال، ورغم ذلك لا يبدو أن من لهم أكبر مصلحة في بقائه لأن مصالحهم ووجودهم متشابكان مع أن يكون هناك لبنان، واعون لما قد يخسرونه.
بأي زعيم حرب نبدأ؟ طبعاً لن نوزّع نصائح مجانية على الفاشلين الدائمين في السياسة اللبنانية الذين انعزلوا عن الشعب وتنوّعه في ماضٍ ما. لكن لنتوقف عند تغريدة بلهاء لسمير جعجع يقارن فيها لبنان بكوريا الشمالية لمنع الأمن العام دخول إعلامية صهيونية إلى لبنان. انتفض أيضاً الإعلام المنتفخ بالتمويل الاستعماري الغربي والبترودولاري المنهوب ليردّد العبارات نفسها.
أولاً، تصوّروا لبنان بطبابة وتعليم مجاني، وشققٍ سكنية مجانية على مدّ النظر «ما بينشبع منها نظر» كما غنّى وديع الصافي. قد يبدو هذا سيناريو أقرب إلى الهلوسة، لكن هذه هي جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية. والمساكن الشعبية ليست ببعد كوريا الشمالية بل متواجدة في القرب، على مسافة أقل من مئة كيلومتر من بيروت، مشوار فان من الكولا إلى شتورا ثم سرفيس لعبور الحدود، وبالمناسبة اسم البلد على قافية كوريا. ما قد يخسره لبنان، وبالأخصّ أكبر المستفيدين منه، هو أنه قد يصبح على قافية كوريا. وهنا لا بد من استعمال بعض الكلام البذيء: يا حمير، يا جحاش، يا هبل، إنكم تخسرون لبنان.
ثانياً، لبنان ليس أولوية أحد من حلفائكم. لبنان أولوية أهله الذين لن تجرفهم الجرّافات. لبنان لن يقوم إلّا بمن لن ينجرف من أرضه. وقد يكونون متنوّعين ومختلفين، لكنّهم ولكنهنّ لم يجترفوا من أرضهنّ وأرضهم… كما إسماعيل ناصر ابن كفرشوبا. «إسرائيل» كانت تعبث في رأس بيروت في زمانٍ مضى، اليوم لا تستطيع جرفاً في تلالنا المتلاصقة مع «جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية» بسبب الحاج إسماعيل؟ كيف نشرح للبلهاء أنّ ذات الزمان ولّى؟ لن نتحدّث عن اليسار لأنه في حال ميؤوس منه، ولبنان بطبيعته يمينيّ الهوى. لكن، رغم ذلك يخرج من هو مهووس بغوغائية اليسار الذي «يسيطر على لبنان». يا حبيبي وأخي اللبناني الذي سوف نتشارك، ونحن محكومون أن نتشارك الوطن، لنتحدّث عن اليمين واليسار في لبنان. ولبنان أصلاً اختراع استعماري، وأحببناه بسبب دوره الوسطي ولكن ليس بسبب مستغلّيه من عملاء الاستعمار.
ثالثاً، لبنان أفلس، والسّؤال الأول هو من أفلسه؟ وهنا قد ارتُكبت الخطيئة الكبرى.
الإفلاس حصل ولا مكان للمحاسبة، طبعاً لمن له خليّتان دماغيّتان أن يفهم أنّ الحياة في مكان آخر. الحياة حتماً في مكان آخر، كما قال الروائي التشيكي ميلان كونديرا… من أفلسَ لبنان هو اليمين. هم البنكرجيّة. ولبنان أفلس بكلّ أوجهه الرأسمالية وليس باشتراكيته الغوغائيّة، ولذلك وجهٌ آخر. أفلسَ بيمينه المتوحّش، وهنا يقف لبنان اليوم. سياسات ماليّة نهبت أموالَ آبائكم وأمّهاتكم كما سرقت أموال أمّي وأبي.
هل تريدون أن يسرق لبنان أموال أمّهاتكم وآبائكم؟ هنا يبدأ النقاش معك يا يمين رجعي. هل أنت مستعد إيديولوجياً أن تناقش؟ هنا تبدأ طاولة الحوار إن أردنا لبنانَ.