تشغل مسألة النازحين السوريين المساحة الأوسع من الحيّز العام في لبنان اليوم، بعد أن قرّر تجّار اللجوء في منظومة رأس المال التصعيد وإعلاء القضية على أيّ من القضايا الأخرى التي قد تشكّل أولويّة للشعب. لكن، من هم هؤلاء التجّار بكلّ تفرّعاتهم الحكومية وغير الحكوميّة، محلياً وعالمياً؟هناك المستفيدون المباشرون من الحروب والنزوح. تجّار اللجوء حسب تعريف القاموس للتجارة هم «الإنسانيون» في المنظمات الغربية التي ترسل جيوشاً من دول الشمال البارد القاحل من معالم الإنسانية، لمساعدة النازحين واللاجئين كلما افتعلت بلادها حروباً تشرّد الشعوب حول العالم. هذه المنظمات امتهنت واحتكرت سوق «الإنسانية» حول العالم ولا تستطيع العيش من دون عالمٍ بحاجة دائمة إلى رعاية من قبل كبار القوم الأكثر دراية في إدارة شؤون الكوكب. تجارة «الإنسانيّة» شغلٌ مربحٌ، ويمكن رؤية آثاره حيثما نظرتم في مطاعم وملاهي بيروت والمدن اللبنانيّة الأخرى، حيث ترون الإنسانيين يرفّهون عن أنفسهم بعد عناء وشقاء زيارة خيمة في البقاع واتخاذ صورة تذكارية مع فقراء لشملها في التقرير السنوي الذي من شأنه أن يجدّد دورة العناء والشقاء وتجديد إيجار الشقة في سرسق. بالمناسبة، كل وجبة يتناولها هؤلاء التجّار تكلّف أكثر من التكلفة الشهرية لإيواء عائلة من مهجّري الحرب. في المقابل يتموّل هؤلاء التجّار من حكومات بلادٍ مستعمرة تحتاج أن تقنع شعوبها بتفوّقها على الإنسان الآخر المتخلّف الذي يحتاج إلى إنسانيتهم، فخلقت هذه السوق التي تغسل صورتها وأموال ضرائب الشعب. بالإضافة إلى الغطاء الذي توفّره هذه المنظمات للعمل المخابراتي في البلاد المستهدفة.
طبعاً هناك طبقة من المنتفعين المحليين لهذه التجارة، إذ فرّخت في لبنان أطنانٌ من الجمعيات التي تتعاطى الخدمات «الإنسانية». هذه الخدمات لا يمكن إنكارها، فهي دائماً توثّق بالصور، تماماً مثل عمليات المقاومة والإعلام الحربي، وهي بمعظمها تستهدف أطفالاً ملطّخين بالوحل أو نساءً ينقصهنّ التمكين فيجتمعن في فندق على مدى يومين ويتمكّنّ. هذه الجمعيات ينتفي سبب وجودها إذا انعدمت «الإنسانية» كسوق. لكن لا خوف على هذه الطبقة لأن أفرادها تجّار، أولاً وأخيراً، وسيجدون تجارة أخرى تنفعهم.
هذا بالنسبة إلى المنتفعين المباشرين بالدولار الـ«فريش». لكنّ هؤلاء مجرّد جزء صغير من الصورة، ففي النهاية مسألة اللجوء لم تكن لتكون لولا الحرب في سوريةا، والانزعاج اللبناني من اللجوء كان ليكون أخفّ نبرةً لو لم ينهر الاقتصاد. أي أنها مسألة سياسية قبل كل شيء، وهنا أيضاً شقّان متداخلان، أحدهما داخلي والثاني عالمي، لكنّ لبّ الصراع نفسه.
منذ أيّام طردت شركة «إن بي سي يونيفرسال» مديرها التنفيذي جيف شيل بسبب «سلوك غير لائق» مع إحدى الإعلاميات في قناة «سي إن بي سي»، التي تختص بأسواق المال. طبعاً فضيحة على أعلى مستويات الإعلام الأميركي تجرّ النميمة على أعلى المستويات أيضاً. فبدأت تظهر أخبار عن علاقات أخرى لهذه الإعلامية مع مستثمرين مليارديريين نافذين في السياسة الأميركية، وفي رأس المال العالمي بطبيعة الحال. هذه الإعلامية هي هادلي غامبل التي أبهرت «ثوّار تشرين» عندما أجرت مقابلة شنيعة بالمعيار المهني مع رئيس التيار الوطني الحرّ جبران باسيل في مؤتمر دافوس للتآمر الرأس مالي على الشعوب. ارتباطات غامبل الشخصية و«المهنية» تعني أن ليس بإمكانها الارتباط بأي ثورة، إنها بصراحة ووضوح تقف مع من تقف، وهم لا يشبهون لا الشعب اللبناني بأغلبيته الساحقة ولا النازحين السوريين، أو أي نازح كان. هناك هادلي غامبل لبناني اسمه مارسيل غانم. هو أيضاً تربطه علاقات مع رجالات رأس المال اللبناني وإن كانوا لا يرتقون إلى عالمية علاقات غامبل. أثار غانم موضوع النازحين السوريين في لبنان بطريقة تحريضية متوقّعة في حلقة برنامجه التلفزيوني الأخيرة. هدف التصويب على النازح السوري ولومه على مآسي اللبنانيين هو صرف الأنظار عن المجرم الحقيقي في جريمة إفقار وتجويع اللبنانيين. من جوّع وأفقر اللبنانيين هو نفسه من قتل وشرّد السوريين، وإن اختلفت اللهجة والأسلوب. هم على المستوى المحلي وكلاء أسياد غامبل وغانم. على رأس هؤلاء من الأحياء رياض سلامة، وليرحم الله من أعاده إلى الوطن. في المقلب الإعلامي الآخر «المستقلّ» هناك من يدعو إلى بقاء السوري في لبنان لاجئاً إلى الأبد، كحافظ الأسد، بحجة أن عودتهم إلى سوريا تهدّد حياتهم. إن كان الهمّ مصلحة النازحين فالحلّ الأنسب هو أن يشغلوا مباني وسط بيروت الشاغرة بدلاً من أن يموتوا برداً في صقيع شتاء البقاع. لكنّ أولويّة هذه المنابر ليست رفاهية ضحايا الحروب، أولويتها كما الجمعيات السابقة الذكر الصورة التي تجدّد التمويل من الحكومات ذاتها وتجديد إيجار الشقة في بدارو.
يبقى أخبث تجار اللجوء، حكومات الدول التي حاربتنا واستعمرتنا وأنهكتنا وأبادت شعوباً عن بكرة أبيها… وأجبرت أناساً على اللجوء. نصّ المادة 41 من اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية واضح جدّاً:
«مع عدم المساس بالمزايا والحصانات على الأشخاص الذين يتمتعون بها احترام قوانين ولوائح الدولة المعتمدين لديها، وعليهم كذلك واجب عدم التدخل في الشؤون الداخلية لتلك الدولة.
كل المسائل الرسمية المعهود بحثها لبعثة الدولة المعتمدة مع الدولة المعتمد لديها يجب أن تُبحث مع وزارة خارجية الدولة المعتمد لديها عن طريقها أو مع أي وزارة متفق عليها».
السفير الألماني هو الأقل احتراماً للأعراف، وأكثر من يجمع بين إيديولوجية تجار العالم لكنه يتصرّف كإقطاعيّ في متصرفيّة لبنان


لم يخطّ هذا النص أي شخصٍ من بلادنا، رغم أسطورة شارل مالك. لن ندخل في كل تفاصيل «التدخّل في الشؤون الداخلية» من قبل سفراء اللجوء في بلادنا، ولن نتدخّل في شؤونهم الداخلية المعيبة. لحظة، لسنا دبلوماسيين نحظى بحصانة وامتيازات. نحن صحافيون نؤمن بقضية تحرّر الشعوب من سطوتكم، الحكومية وغير الحكومية ولن يعنينا سفهاؤكم.
في الثامن من نيسان قامت حكومة تشاد بطرد السفير الألماني المعتمد لديها غوردون كريكه بسبب «سلوكه الفظّ وعدم احترامه للأعراف الدبلوماسية». طردهم ممكن وضروري. إمّا ننهض مع سوريا وتشاد ومن يشبهنا في الطبقية العالمية، أو لن ينهض إلّا غامبل وغانم و«المستثمرون» الذين يخدمونهم بيننا (كما قال الرفيق عامر محسن بكلمات أخرى في مقالته الأخيرة). السفير الألماني في لبنان هو أكثر فظاظة وأقل احتراماً للأعراف الدبلوماسية. وهو أيضاً أكثر من يجمع بين إيديولوجية تجار مليارديرية العالم المعادية للشعوب ولكنه لا يزال يتصرّف كإقطاعيّ في متصرفيّة لبنان. هو لا يهمّ. ليست مسؤوليتنا أن نثقّفه.
لأنه الأوّل من أيّار لا بدّ من التذكير أن المستثمر تاجر لا يعمل. طرد تجّار الحروب واللجوء، من ألمانهم إلى بنكرجيتهم ممكن، وضروري. الحلول المتاحة لمشاكل شعوبنا وعمّالنا كثيرة. لكنّ المهم أن لا نسمح أن تصبح شعوبنا وعمّالنا في لبنان وسوريا (وتشاد) سلعاً في سوق تجّارٍ.