وصل الرئيس الأميركي جو بايدن، أمس، الى المنطقة ويصل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الى إيران الأسبوع المقبل، والملف اللبناني واحد من المواضيع المدرجة على جدولَي أعمال الجولة الأميركية والزيارة الروسية. ويأخذ انتخاب رئيس جديد للجمهورية مداه في صراع محورين متقابلين في مرحلة حساسة، ما يثير شكوكاً حول المنحى الذي تطرحه احتمالات التصادم بين مشروعين رئاسيين مختلفين في العمق. وفي وقت يشتدّ فيه الكباش الإقليمي والدولي، ويقترب عهد الرئيس ميشال عون من نهايته، ويستمر الانهيار الداخلي في تسارع، يغيب الدور المسيحي عن استحقاق الموقع المسيحي الأول.ندر أن كان التعامل مع الاستحقاق هشّاً لدى القوى المسيحية الى الحد الذي يبدو عليه اليوم، كما ندر أن سلّم الجميع جدلاً بأن مآل الصراع الحالي قد ينحصر باسم أو اسمين، فلا تطرح أسماء بديلة من تلك المتداولة. وقبل ثلاثة أشهر ونصف شهر من موعد خروج رئيس الجمهورية من قصر بعبدا، لا تزال القوى المسيحية غائبة عن المشهد الرئاسي.
ومفارقات الاستحقاق عند المسيحيين والموارنة كثيرة في مرحلة التحديات الإقليمية والمساومات والترتيبات التي لا يبدو أن لهم حضوراً فاعلاً فيها. يشير أحد السياسيين المخضرمين إلى أنه لطالما كان للقيادات الإسلامية دور مهم في اختيار رئيس الجمهورية قبل الحرب وبعدها، وتعزز هذا الأمر مع الوجود السوري. لكن الدور المسيحي كان دائماً أساسياً، ولم يحدث أن كان مغيّباً الى الحد الذي صارت فيه القيادات المارونية تتعامل مع الاستحقاق كأنه محطة عادية في مسار الدورة السياسية، فلا تمارس أي ضغط سياسي أو شعبي للدفع في اتجاهه.
وحتى مع انتخاب عون، تبلور الحراك السياسي أولاً مع لقاء الأقطاب الموارنة في البطريركية المارونية، والخروج لاحقاً بخلاصة معادلة «الرئيس القوي»، ورغم الدور الأساسي لحزب الله، جاءت تغطية انتخاب عون بتفاهم معراب وبمجموعة تفاهمات، منها ما سقط واندثر ومنها ما تحوّل إلى عداوات لا تزال قائمة. في المقابل، قامت حركة مسيحية اعتراضية وقفت ضد انتخابه وظلّت تقول كلمتها رفضاً له طوال ست سنوات.
لكن استحقاق عام 2022 يُظهر المسيحيين كأنهم استسلموا كلياً لفكرة أن الرئيس المقبل سيكون من اختيار حزب الله ولا أحد سواه، حتى إن معارضي الحزب باتوا غير واثقين بمتغيّر دولي أو إقليمي يساهم في فرض معادلة رئيس معارض للحزب مقابل رئيس موال له. ورغم أن الجو الإقليمي والدولي المتحرك يطرح ملف لبنان على الطاولة، مع احتمال غير مستبعد بأن يجري تقديم مشروع رئاسي معارض، إلا أنه خلافاً للاستحقاقات السابقة، لا دور للقوى المسيحية في تظهير وترجمة أي مشروع رئاسي مع الدول الفاعلة، لا مع واشنطن أو باريس ولا مع السعودية أو مصر.
قد يكون الانطباع الأكثر تداولاً هو حجم حضور معارضي حزب الله في الأوساط الخارجية والدبلوماسية في لبنان بشكل خاص. لكن الواقع لا يعبّر تماماً عن الحقيقة. فالتواصل المسيحي السياسي مع الخارج شبه مقطوع، وعلاقات شخصيات مع دوائر خارجية لا تعني أن الحضور المسيحي فاعل الى درجة فرض مشروع ما. حتى إن بكركي التي ترفع الصوت في التشديد على «بروفيل» الرئيس الجديد وضرورة إجراء الانتخاب، لا تزال تتعاطى معه محلياً، ولا يقف الفاتيكان أو فرنسا الى جانبها بقوة كانت معهودة في ملف رئاسة الجمهورية وحرص بكركي عليها.
أما القوى السياسية التي انحسر حضورها الخارجي منذ سنوات، فتحصد اليوم نتائج غيابها الفعلي عن الساحة الإقليمية والدولية، فيما يطرح اختيار رئيس مسيحي على طاولات الترتيبات الإقليمية، فلا تتمكن من تأدية دور فاعل. والمشكلة أن أي ترتيب خارجي في أي اتجاه أتى، سواء لجهة التسوية أو تصادم مشروعين رئاسيين، سيكون من الصعب التعامل معه على مستوى جدي وانخراط الجميع فيه، كما كانت عليه الحال في الاستحقاقات الماضية، بما في ذلك تسوية الدوحة. فمعارضو حزب الله ليسوا على توافق تام حيال رؤيتهم لاستحقاق الرئاسة، ولا هم يتمتعون بمستوى الحضور الخارجي والمحلي نفسه الذي جعل منهم سابقاً عنصراً مؤثراً في مواجهة أي مشروع لا ينسجم مع خطابهم السياسي. ومؤيدو حزب الله من المسيحيين ليسوا أفضل حالاً، لأنهم باتوا في ظل ضبابية الموقف الإقليمي من الرئاسة وحجم الضغوط عليهم، يضعون في مقدّم اهتمامهم النفاد بالاستحقاق بأكبر قدر من المكاسب، سواء وصلوا الى قصر بعبدا أو لم يصلوا. لكن القاسم المشترك بينهم أن دورهم في الاستحقاق مغيّب لأنهم بدورهم ينتظرون كلمة السر الرئاسية، وقد ولّى زمن الحرد السياسي من أجل فرض واقع رئاسي. وتجربة انتخاب عون لن تتكرر، كما لن تتكرر تجربة تفاهم باريس بين الرئيس سعد الحريري ورئيس تيار المردة سليمان فرنجية، والتي دفنها حزب الله في مهدها، مهما كانت هوية داعميها.