تروي مصادر في لجنة المتابعة، التي توافق عليها كلّ قضاة لبنان (مؤلفة من 10 قضاة، 8 في القضاء العدلي، قاض من مجلس شورى الدولة وآخر من ديوان المحاسبة) عن محاولاتها للتخفيف من أعباء الأزمة على القضاة "بعدما صارت حالتهم بالويل". سعت بداية إلى إيجاد حلول لتحسين الرواتب، وبما أن المهمة كانت مستحيلة، كان هذا التدبير "وكان التبرير القانوني العمل على تسيير المرفق القضائي كي لا تتعطّل العدالة، وخصوصاً أن معظم القضاة كانوا يحضرون جلساتهم، إلا أنهم مع تمدّد الأزمة باتوا غير قادرين حتى على الحضور بسبب تكاليف النقل". وتلفت المصادر إلى أن "عدد القضاة في كلّ لبنان لا يتجاوز الـ 500، وهم لا يستطيعون العمل في أيّ مهنة أخرى سوى التعليم الجامعي، وراتب العمل الجامعي لم يعد يكفي لتعبئة المحروقات".
تدبير وليس قانوناً
كما تشير المصادر إلى أن "هذا القرار ليس خطياً، ولا يحلّ محل القانون ولا هو تصحيح أجور، إنما هو تدبير ولا يؤتى به من أموال المودعين. هو أقرب إلى إعادة احتساب مؤقتة ولا تحتسب من أساس الراتب ولا تكرّس إلى حين إيجاد حلول أخرى. وهدفه هو السماح للقاضي بأن يقف على قدميه فقط".
أما بالنسبة إلى منتقدي القرار من باب أنه لا يمكن التمييز بين موظفي القطاع العام، "من المفيد القول إن القاضي ليس موظفاً في القطاع العام، وإنما هو عضو سلطة. وإن كنا نعترف بأن القضاء خذل الناس في أماكن كثيرة فنحن نقصد القضاء كمؤسسة وليس القضاء كأفراد، فهؤلاء مواطنون كغيرهم ويقومون بأعمالهم من دون منّة من أحد ويعانون كغيرهم. والدليل على أن القضاة ليسوا موظفين في القطاع العام هو أن القضاة نالوا سلسلة رواتبهم في عام 2012، فيما موظفو القطاع العام نالوها في عام 2017".

لا مساومات
وتؤكد المصادر أن هذه الخطوة "لم تكن مقابل شيء على عكس ما يصوّره البعض، لم يكن هناك أي مساومات أو شروط أو وعود لأحد، وقد تمت بمباركة كل السلطات والمراجع المحلية". وفي ما يخص موقف القضاة منها، فإن "العتاة" منهم حذّروا من التوقف عن العمل في حال عدم تنفيذها "ليس لأجل التعطيل وإنما لأن القاضي لم يعد يملك أجرة النقل".
بدورها، تؤكد قاضية أن هذا التدبير لا يفترض أن يؤثر على نزاهة العمل، مؤكدة الحاجة إلى هذه الزيادة، إذ "كيف سيستقيم القول باستقلالية القضاء ونزاهته ونحن نفتقر إلى مقومات الصمود؟ هذا التصحيح هزيل ويوازي ربع راتب القاضي سابقاً. لو بقيت على راتبي القديم، قبل الزيادة، سأقوم بعملي على قدر هذا الراتب. وفي حال كان يكفي للوصول مرتين إلى العدلية، فسأذهب لمرتين فقط". وتأمل القاضية لو أن الزيادة شملت جميع موظفي القطاع العام "علماً بأننا لسنا موظفين، بل سلطة مؤكّدة بنص دستوري"، لافتة إلى أن "مصدر هذه الأموال هو مصرف لبنان، الجهة المعنية بصرف رواتبنا. هي ليست مساعدات دولية كتلك التي تدفع للجيش اللبناني بالعملة الأجنبية".

تدبير قانوني؟
يؤكد منسّق اللجنة القانونية في المرصد الشعبي جاد طعمة أن "أصل التدبير غير قانوني، ويجب على القضاة المؤتمنين على تنفيذ القانون رفض الأمر جملة وتفصيلاً". يوضح أن "الرواتب تصرف بناءً على قانون سلسلة الرتب والرواتب، فعلى أيّ أساس تمّ تحويلها لدولار ومن ثمّ احتساب قيمة هذا الدولار على 8000؟ ولماذا لا تصرف على أساس 12000 أو صيرفة أو السوق السوداء؟ هذه شريعة غاب، أُعلنت وتعمّقت عندما جمّد المدعي العام التمييزي غسان عويدات قرار النائب العام المالي علي إبراهيم، يوم قرّر في آذار 2020، وضع إشارة منع تصرف على عقارات المصارف وأملاكها. بعد ذلك تكرّست كلّ المخالفات القانونية".
لسنا موظفين في القطاع العام بل سلطة مؤكدة بنص دستوري


ويذكّر طعمة بقرار مجلس شورى الدولة وقف تنفيذ التعميم 151. "يومها استدعي رئيس مجلس الشورى (أعلى محكمة إدارية في لبنان) وحاكم مصرف لبنان إلى القصر الجمهوري وأجبر الأول على تعديل قراره. أي أنّ القرار القضائي القانوني حُلّ بالسياسة. وإذا راجعت اليوم في مجلس الشورى عن القرار لدراسته يُقال لك: ضائع. حرفياً لقد أخفي الملف".
يرى طعمة أن هذا القرار الجديد "مخيف لأنّه يكرّس أكثر مبدأ المسايرة لأهل السلطة للتفلّت من العقاب. قبول القضاة اليوم بهذا سيفقدهم الاستقلالية ويضعهم تحت رحمة مع يدفع".
هل يمكن الطعن بهذا التدبير، نسأل طعمة، فيجيب "للأسف، لا يمكن المراجعة أو الطعن بقرار الحاكم بسبب عدم وجود مستند للبناء عليه".