يعالج كتاب «الخسيس والنفيس... الرقابة والفساد في المدينة الإسلامية» (الدار المصرية اللبنانية) الذي صدرت طبعته الأولى عن «الريس» عام 2008، للسفير اللبناني في القاهرة خالد زيادة، موضوعات غاية في الأهمية تكشف وجوهاً مجهولة لدور الدولة في الحضارة الإسلامية. معظم هذه الوجوه متعلقة بـ «فكرة التمدن والتحضر» التي تتجاهلها أغلبية الحركات الأصولية الإسلامية اليوم، مركّزة على ممارسات العنف، فيما تقتصر فكرة العودة إلى الجذور لديها على فهم متشدد للدين. الكتاب يظهر العديد من النصوص التي وضعها الفقهاء في فترات تاريخية مختلفة من أجل انتظام الحياة المدنية والرقابة على مرافقها. أمور تشكل الآن حضور الدولة في المجال العام داخل المجتمعات الغربية الحديثة. لا يتعرض الكتاب إلى مفهوم المدنية بالتركيز على أمور العمارة، بل على صور الحياة اليومية التي تشكل الفضاء المدني.
هكذا يقدم قراءة في نصوص «الحسبة» التي تدخل كما يقول «في مثلث يقوم على العلاقة بين الشريعة وتفسير الفقهاء لجانبها القانوني التطبيقي والسلطة الحاكمة والمجتمع، ومن ثم فالكتاب هو بمعنى ما محاولة لتفكيك هذه العلاقات بالعودة إلى مصادر تاريخية متنوعة، بعضها يتناول أحكام الحمامات واللهو والغناء، وبعضها الآخر يقع في إطار كتابات الحسبة التي اعتنت أصلاً بالرقابة على الأسواق».
أول ما يلفت النظر أنّ المدينة لم تشغل كمفهوم او كميدان تطبيقي سوى حيز ضيق من أعمال الفقهاء. نجد صفحات محدودة في التراث الإسلامي تعتني بالأحكام السلطانية في هذه الأمور ومنها كتابات الماوردي والطرطوشي. جاءت أعمال هؤلاء بعد استقرار الفتوحات الإسلامية، وبدأ الاهتمام بالبحث عن الشروط الرئيسة التي يجب أن تتوافر في المدينة لتستحق هذه الصفة، سواء شكل المسجد أو الأسواق وآليات الرقابة عليها من قبل الدولة وممثليها، استناداً إلى بعض الأحكام الفقهية التي راعت دوماً السياق التاريخي وفضائل التنوع المرتبطة بالنشاط الاقتصادي وممارسيه.
ويعدد زيادة تعريفات المدينة في التراث الإسلامي، لافتاً إلى أحد أبرز هذه التعريفات هو أن المدينة «حد بين العلم والجهل»، وهي «القاضي والجامع والسوق والنهر والحمام»، ليبدو الفضاء المديني حقلاً لرقابة الفقهاء. يظهر زيادة المدى العام والمشترك، والمقصود به رقابة الدولة لا المجال الخاص: «ومن ثم يجد قارئ كتب الأحكام الفقهية العديد من النصوص التي تتناول أحكام دخول المسجد ومنكراته التي تشملها الرقابة والمنع وكذلك صور الرقابة على السوق باعتباره المكان المشترك للجمع والارتزاق».
ووفقاً للكاتب، فإن الرقابة في الموانع المذكورة «تنصرف إلى الاتفاق على معنى مشترك هو تأمين العبور في الشوارع والطرقات والأسواق من دون عوائق أو موانع إلا أن ثمة موانع أخرى تنصرف إلى سلوك المتصرفين أنفسهم». والمعروف أن الدولة تركت حق الرقابة إلى «المحتسب» بحسب أعمال الفقهاء، وهو الذي يمثل صورتها ويراقب الأسواق والمساجد والحمامات والسجون، فيما تبقى أمكنة أخرى بمنأى عن رقابته اختص بها «صاحب الشرطة»، أو صاحب «العسس» الذي يعيَّن من الخليفة أو الوالي. وعادة ما كان يتم تقسيم المهام بين المحتسب «صاحب السوق» وبين «صاحب الشرطة» بمعرفة الولاة لأنّ ثمة اختلافاً بين عمل الرجلين يعود إلى أنهما يخضعان لمرجعيتين مختلفتين رغم أن المدينة هي الميدان المشترك لكليهما. وكما يشير خالد زيادة، فإنه ينبغي أن يؤخذ التقاسم بين «حكم الشرع» و»حكم السياسة» في الاعتبار. وإذا كان المكان المديني من ابتداع العقل الفقهي في الأساس، فيجدر بنا أن نلاحظ أيضاً إعادة ترتيبه المستمرة التي جعلته في النتيجة ميداناً لرقابة حكام السياسة.

كانت الأعياد أحد أشكال إعلان السلطة التي أحكمت قبضتها على المناسبات الدينية

ويلفت المؤلف إلى أن مقاربة مسألة الفساد والإصلاح في التجربة التاريخية الإسلامية يمكن فهمها في إطار الوظائف التي كان يؤديها المحتسب، مع أهمية تأكيد أن الفقهاء حالوا دون جعل الاحتساب مؤسسة حصرية للرقابة. كما أن جهاز الفقهاء لم يتحول إلى مؤسسة مستقلة وخضع دوماً لضغوط السلطة الحاكمة من أجل تسويغ الضرائب وممارسات الدولة. ورغم أن التجربة المملوكية أظهرت تمكن بعض العلماء، إلا أن النظام الفقهي المعرفي لم يكن مؤهلاً لابتداع مؤسسات رقابة مستقلة. ومن هنا، فإنّ الحلول التي اقترحوها بقيت إصلاحية أخلاقية.
وإذا كانت البلاد العربية عرفت أخيراً جدلاً حول دور المحتسبين، وخلافاً حول قانون الحسبة كما جرى في مصر خلال أزمة تفريق نصر أبو زيد عن زوجته في تسعينات القرن الماضي، فإنّ الكتاب يظهر الجدل الفقهي حول دور المحتسبين قديماً، إلا أنه يؤكد أن التراث الإسلامي يحتفظ بنصوص رئيسية حول «آداب الحسبة» تتشابه في أغلبها رغم اختلاف بلدان أصحابها. يرد ذلك لتشابه الاجراءات التي اقترحها الفقهاء لتنظيم المدينة الاسلامية حيث اقتصر دور المحتسب على الرقابة الصارمة التي كان ينفّذها على المهن والحرف والأسواق والرقابة على الأخلاق العامة في الاسواق والحمامات العمومية والبيمارستانات (المستشفيات). يخلص المؤلف إلى أنّ وظيفة المحتسب كانت نهارية لأن الرقابة في الليل وظيفة الشرطة، وهي مهمة ذات نطاق جغرافي محدد بحدود الأسواق. كما أن مهامه تشمل الأمور الظاهرة، فلا يحق له التجسس أو التفتيش وهي مهمة اقرب إلى ما يعرف اليوم بشرطة «الاخلاق ومراقبة الغش»، وهي بذلك وظيفة مدنية لا أمنية. كما أن وظيفة إقامة الحدود لا تقع ضمن اختصاصاته، فهذا شان الحاكم الشرعي. هنا، لا يجزم المؤلف بتحول الحسبة إلى مؤسسة واضحة المعالم خصوصاً أن «حق الاحتساب هو لكل مسلم ولكل مسلم أن ينبه الى الفساد ويدل عليه».
وتحت عنوان «الخسيس والنفيس»، يظهر المؤلف الأدوار المختلفة التي لعبتها أجهزة الدولة في المدينة الاسلامية لمراعاة صور التمييز سواء لأسباب طبقية أو عرقية، كما يظهر دورها في المرافق العامة حيث ظل هناك دائماً اقرار بأن هناك فئات خسيسة وأخرى نفيسة. ويتابع تطور حضور المهن والحرف وصولاً إلى صور تنظيم علاقة أرباب المهن في الدولة، التي خضعت في أشكال التصنيف والتقسيم لكتب الفقهاء، سواء الخسيس منها والنفيس. كانت هناك مهن تحتكرها الدولة او الرجال وتطور هذا النظام الى «طوائف الحرف» التي تم الغاؤها في مصر عام 1899.
يكشف الكتاب الأمور التي خضعت لتنظيم دقيق من الدولة، على رأسها أمور اللهو التي جمع المؤلف شتاتها من العديد من المصادر مثل كتب المقامات والاغاني. الطريف أن بعض كتب الحسبة تعكس صور الرقابة على اللهو، وبعضها يظهر آداب الاستماع والموانع الفقهية المصاحبة لممارسات أصحاب مهن اللهو وألعاب القمار والنرد وغيرها من ألعاب التسلية. اللافت أن هذا الفصل يبيّن تسامحاً مع عادات وأعياد أصحاب الديانات الأخرى، مؤكداً أن الفاطميين هم من صبغوا مصر بالصبغة الاسلامية. هكذا، لم تكن الاعياد هي الشكل الاكثر تعبيراً عن ذلك فحسب، بل كانت أيضاً شكلاً من أشكال إعلان السلطة وحضورها التي احكمت قبضتها على المناسبات الدينية، في حين أنّ العامة قد اندفعت الى المشاركة في الاعياد والمناسبات غير الاسلامية التي لم يمح أثرها الاسلام.
في ختام الكتاب، يبحث زيادة في الأسس التي وضعت الدولة الاسلامية في تناقض مع المجتمع المديني، وكل الأسس التي أدت إلى التسلط الراهن للدولة على المجتمع. ويميز بالتالي بين المدينة كمكان اجتماعي ومسرح للانتاج والعمل والسلطة، وبين مفهوم المدينة الذي كان مجهوداً خالصاً للفقهاء، لكن مع أهمية القول بأن النظام الديني احتفظ باستقلاله عن النظام السياسي، إذ تطور الفقه بمعزل عن الدولة. شكّلت المدينة فضاءً تشريعياً وخضعت لسلطة الفقهاء في الميراث وتنظيم وسائل العمران. ويحفل التراث الإسلامي بمحاولات سعت إلى ايجاد الخطوط التي تصل الدولة بالدين والدولة بالمجتمع المديني، وتم هذا الانفصال بوضوح في ظل نموذج الدولة العسكرية أي دولة التغلب التي بلغت نموذجها الواضح في عصر المماليك. أعطت دولة المماليك مثال انفصال الدولة جسدياً عن مجتمع المدينة. اتسعت الهوة بين السياسة من جهة والشريعة من جهة أخرى، وأصبح الانقطاع بين الشريعة والقانون التعبير النموذجي عن انفصال الدولة عن المجتمع. كان المجتمع المديني يعيش وفق ما اعتبر حكم الشريعة والاحكام الفقهية، وبهذا المعنى كانت الشريعة متحققة في المجتمع ولو كانت الدولة تسير وفق قوانينها وأعرافها.
ينتهي الكتاب بدراسة التحدي الذي واجهته المدينة الاسلامية مع ظهور الحداثة بمفهومها الغربي. مع ظهور هيئات تمثيلية شعبية من أشكال الإدارة المحلية والتمثيل السياسي البرلماني، أصبحت فكرة الدولة مفهوماً مجرداً تفرض القوانين على كل رعاياها الذين اكتسبوا صفة «المواطنين». كما تماهى الوطن بالدولة، وحدث توسع عمراني في حدود المدينة ووظائفها، وجرى تبنٍّ للنموذج الغربي في أغلب البلدان، ما أوجد تحدياً للبنية الفقهية التشريعية المعنية بتنظيم المجتمع والأحوال. هذه البنية عجزت إجمالاً عن مواكبة التحديث، وحَصر النظام الإسلامي الذي تقترحه الجماعات الاصولية نفسه بمبدأ الحسبة رغم أن المحتسب في ظل الدولة الاسلامية لم يكن يمتلك صلاحيات إقامة الحدود.