كان هشام جعيّط (1935 ـــ 2021) شغوفاً بفلسفة التاريخ، وظّفها في جلّ كتاباته. وكان كتابه الأخير (1Penser l’Histoire Penser la Religion) ، وخصوصاً الفصل المخصّص للتفكّر في الدّين، مجالاً للتعمّق في مفاهيم عدة كالحداثة والدين وفلسفة التاريخ. إنّ دراسة هذه المفاهيم مرتبط ارتباطاً وثيقاً بتطوّر الأديان السماويّة كاليهوديّة والمسيحيّة والإسلام.
ويعدّ مفهوم الحداثة مفهوماً مركزيّاً لدى جعيّط لأنّه فسّر تطوّر أوروبا وعجز العالم الإسلامي عن التقدّم. ربط المؤرّخ التطوّر الفكري والعلاقة بالدّيني كعناصر أساسيّة لتطوّر الإنسانيّة.
حلّل علاقة الدّين بالحداثة، فبيّن أنّ هذا المفهوم ظهر في أوروبا في النصف الثاني من القرن العشرين في الغرب (2). لكنّ هذا المفهوم وظّف توظيفاً سلبيّاً من قبل كثيرين.
ففي القرن السابع عشر، ظهرت الحداثة مجسّدة في تيّار جديد من الأدباء المتحدّين للجيل القديم المتمسّك بالأدب القديم اليوناني والرّوماني، وعظّمت منزلة الحضارتين اليونانيّة والرومانيّة في فترة النهضة الأوروبيّة لتميّزهما، وصعوبة تجاوزهما في الفنون (كالعمارة والنّحت....)، وفي الآداب، والفلسفة.


عوّضت أوروبا ثقافة الفترة الوسيطة المتأخّرة المتميّزة بغلبة الفنّ القوطي، وأخلاقيّات الفروسيّة، والفلسفة المدرسيّة، بالرجوع إلى الجذور الأولى لأوروبا قبل اجتياحات البرابرة (3).
يضيف المؤرّخ أنّ مفهوم الحداثة ينقسم بدوره إلى مفهومين. يتمثّل المفهوم الأوّل في إنجاز الحديث أي الجديد، بينما يفترض مع المفهوم الثاني أن يظهر عهد جديد يحدث قطيعة مع الماضي. في القرن الثامن عشر، ظهرت روح إبداعيّة وتجديديّة قويّة في الآداب والفنون والفلسفة غيّرت مجرى تاريخ الإنسانيّة، لكن ظلّ الحفاظ على العناصر القديمة كالدّين والحرب (4).
وكانت هذه الحركة الجديدة ترفض النزعة القديمة وتحقّر من شأنها. ارتبطت الروح التجديديّة بالأنوار الفرنسيّة والأوروبيّة بصفة عامّة. فكان هذا التيّار يبني بصفة تدريجيّة العناصر المكوّنة للحداثة بغير وعي ضمنيّ بفعل التجديد. يقصد هشام جعيّط بالحداثة جملة المبادئ والأفكار التي نقلت العالم من الفترة «القديمة» إلى الفترات الحديثة.
أصبح هذا الوعي بالتجديد حاضراً بصفة جليّة في فترة الفيلسوف هيغل، الذي يذكر الفترات الحديثة، ويلقّب نفسه ومعاصريه بـ«نحن المحدثون».
لا بدّ من الإشارة إلى أنّ جعيّط أولى هيغل اهتماماً خاصّاً لأنّه الأب المؤسّس لفلسفة التاريخ (5). بيّن المؤرّخ والمفكّر أنّ هيغل ظهر حسب المؤرخين في فترة ما بعد الأنوار، وقد بقي تأثير الأنوار متواصلاً على مستوى الفكر. تواصل تطوّر مفهوم الحداثة، وازداد ثراءً باتصال بمفهوم الثورة والرأسماليّة والتصنيع والعلم وكبار الإنجازات الفكريّة.
بيّن هشام جعيّط أنّه درس الحداثة بعلاقة بالدّين والتّاريخ (6)، ولم يهتمّ بجوانبها المرتبطة بالتطوّر الحضاري لأوروبا مقارنة ببقيّة الأصقاع. يتوصّل التاريخ إلى تنسيب تاريخانيّة الحداثة وتنزيلها في إطار التاريخ العالمي، وبالتحديد ضمن حضارة معيّنة.
انتقل جعيّط لتفسير فكرة أساسيّة هي إشكاليّة علاقة الديني بالحداثة التي طرحت منذ فترة الأنوار وماركس وماكس فيبر، وفي القرن العشرين. فقد وقع رفض الدين من قبل الأنوار الفرنسيّة، ثمّ أصبح الدّين حافزاً لتطوّر الرّأسماليّة لدى البروتستانت لدى ماكس فيبر. يعتبر هذا الأخير ومن قبله هيغل، مِن المفكّرين الأساسييّن المطوّرين لمفهوم الحداثة. لكنّ الحداثة تشكو أزمة حادّة في الفترة الحاليّة، نظراً إلى نفسيّة البشر ونزعتهم للحرب والعداوات.
ربط هشام جعيّط تحليله للحداثة بالعالم الإسلامي، فكان متفائلاً بالتحاقه بالحداثة التي انخرط فيها منذ قرن أو قرنين، لكنّه يشكو بطئاً في الالتحاق بالرّكب. وهو يرى هذا التطوّر البطيء طبيعيّاً. فقد انغرست الحداثة في أوروبا في ثقافة جديدة، وفي تجديد لمفهوم الدين، والأنا. ولا شكّ في أنّ المسلمين سيتبنّون الحداثة في مجال الثورة الصّناعيّة والتكنولوجيا وعلوم الحياة والطبيعة.
يعاني العالم العربي منذ أكثر من خمسين عاماً من التصحّر الثقافي على مستوى تثمين التراث


يطرح جعيّط سؤالاً: هل ينجح المسلمون في التمتّع بالصّفات الأخلاقيّة التي يتمتّع بها الغرب كاستقلاليّة الفرد، وحريّته، والوعي الشّخصي، واحترام الآخرين؟
يعاني العالم العربي منذ أكثر من خمسين عاماً من التصحّر الثقافي على مستوى تثمين التراث، فيما يحافظ الغرب على ذاكرته الجمعيّة، وعلى مستوى الوعي بالثقافة المتعلّقة بالكتاب والرسم والموسيقى والمسرح والعلوم والأدب. أوكل المفكّر المسؤوليّة للمجتمع المدني حتّى ينهض بالمجتمع. فلا يمكن للعالم العربي والإسلامي الخروج من الأزمة الاجتماعيّة والفكريّة إلاّ بتقوية المجتمع المدني والالتزام بالديموقراطيّة والسّلام والتّآزربين الأشخاص والشّعوب، والطّموح إلى ثقافة عليا.
يعتبر هشام جعيّط محدثاً في مواضيع ومناهج البحث التّاريخي. فهو قد تعمّق في دراسة نشأة وتطوّر الأديان السّماويّة وأساساً الإسلام. وربط هذا التطوّر بمفهوم الحداثة.
كما أنّه استعمل مناهج البحث الحديثة ابتداءً بفلسفة التّاريخ، وصولاً إلى الأنتروبولوجيا التّاريخيّة.
* كاتبة ومؤرخة تونسية

1- Hichem Djaït‚ Penser l’Histoire Penser la Religion‚ Cérès Editions‚2022‚p.113-152.
2- المقصود بالغرب، أوروبا الغربيّة.
3- Hichem Djaït‚ Op. cit.‚p.36.
4- Hichem Djaït‚ La Crise de la Culture Islamique‚Cérès Editions‚2000‚p.326.
5- Hichem Djaït‚ Op. cit.‚p.138.
6- يقصد هشام جعيّط بالتّاريخ «الحقيقة والعالم التّاريخي والفكر والعلم».