مضت أكثر من 110 سنوات على اكتشاف «روزنامة جازر» في «تل الجزر» الذي يمثل أطلال مدينة «جازر» القديمة الكبرى قرب مدينة «الرملة» الحالية في فلسطين. لكن مرور هذه السنوات لم تغير من طريقة التعامل مع نقش الروزنامة المفترضة. فالأسئلة التي طرحها الباحثون في البدء ظلت هي الأسئلة المطروحة حتى الآن. أجيال متتالية من الباحثين، لكن الأسئلة نفسها: ما هي لغة النقش؟ أي عبرية أم كنعانية- فينيقية؟ ولماذا استخدم النقش مرة صيغة «يرح»، التي تعني: شهر، وأخرى صيغة «يرحو»؟ وكم هو عدد الشهور التي تحويها الروزنامة؟ أهو ثمانية أم اثنا عشر؟ وما كانت وظيفة اللوح الذي كتب عليه النقش: أهو لوح نسخ لتلميذ، أم هو وثيقة إدارية رسمية لسلطة ما لها علاقة بالفصول والزراعة؟ أم هو نص ديني أو فولكلوري؟
رسم الحروف من دوغلاس ت مانغوم

في هذه الورقة، أود أن أدخل إلى النقش من مدخل آخر: من الحروف الثلاثة الأخيرة في أسفل يسار النقش، ومن بقايا الثقب المربع، الذي بقيت آثار تدل على وجوده رغم الكسر. فأنا أعتقد أنه في هذين الأمرين يكمن مفتاح النقش لا في كلمتي «يرح» و«يرحو».

الحروف الثلاثة
قرئت الحروف على أنها «أبي»، وأنها تمثل اسم الكاتب وتوقيعه. وقد افترض أن الاسم يجب أن يكون الذي قد يكون «أبياه» أو «أبياهو»، لكن الحروف الأخرى ضاعت. وهناك قلة تشكك في هذه القراءة. أما الغالبية الساحقة فتوافق عليها.


بناء عليه، فالكلمة قرئت عمودياً، ومن الأعلى للأسفل. لكنّ أحداً لم يفسر لنا لم عمد الكاتب إلى كتابة هذه الكلمة عمودياً في حين أن النص، بسطوره السبعة، مكتوب أفقياً. وهذه مسألة يجب أن تعالج وأن يقدم حلّ مقنع لها. لا يجوز المرور عنها كأنها مسألة بديهية. ليس بديهياً أن يخالف الكاتب اتجاه الكتابة حين يضع توقيعه، إن كان الأمر يتعلق بتوقيع فعلاً.
ويجب الانتباه أولاً إلى أن الأحرف الثلاثة قرئت من الأعلى للأسفل. لكن لماذا علينا قراءتها من الأعلى للأسفل؟ ولماذا لا يكون قراءتها من الأسفل للأعلى؟ فرضية «التوقيع» هي التي توجب قراءة الحروف الثلاثة من الأعلى للأسفل فقط. أما فرضية أخرى غيرها، فيمكن أن تقترح قراءتها من الأسفل للأعلى.
وأنا أنوي بالفعل اقتراح قراءة الحروف الثلاثة من الأسفل للأعلى. أي عكس القراءة السائدة. وفرضيتي تقول إن هذه الحروف جزء من نص عمودي سابق، لكنه محي وتبقّت منه الحروف الثلاثة، وأن ما نتعامل معه على أنه الأسفل الآن، كان في الواقع هو الأعلى في النص السابق الذي محي. وهو ما يعني أنّ كاتب النص الأحدث قلب اللوح، وجعل عاليه سافله، لكي يكتب نصه الأفقي. بذا، فلكي نقرأ الحروف الثلاثة السفلى قراءةً سليمةً، علينا أن نقلب اللوح بمقدار 180 درجة، وهو ما سيقلب قراءة الحروف الثلاثة من «أبي» إلى «يبأ»، هذا إن كنا في الواقع مع حرف الياء. وأنا أشكّ في ذلك.
وأغلب الظن أن الحروف الثلاثة كانت جزءاً من كلمة أطول. لكن كاتب النص مسح الجزء الذي سيعيقه في كتابة نصه الأفقي. ومن الواضح أنه لم يجد ضرورة لمسح الحروف الثلاثة لأنها لا تعترض كتابة أسطره، لأنها محشورة في الزاوية قرب الكسر. وليس ممكناً كتابة سطر أفقي في هذه الزاوية الصغيرة.

من العمودي إلى الأفقي
لكن السؤال الآن هو: لماذا فضل كاتب النص الانتقال من الكتابة العمودية إلى الكتابة الأفقية؟
والإجابة على السؤال سهلة. لقد انتقل بسبب انكسار اللوح عند الثقب، وبعد انكساره. أي أن الكسر هو الذي أرغمه على تغيير اتجاه الكتابة. إذ إن الكسر الذي أضاع الثقب، أكل جزءاً لا بأس به من مساحة الكتابة العمودية. وهذا ما جعل الكتابة العمودية أمراً غير عملي. لهذا تخلى عنها.

هكذا كان وضع اللوح في الأصل، وكانت الكتابة فيه عمودية

هذا الاستخلاص يمكّننا من حلّ مسألة الثقب المربع الذي كان موجوداً في الأسفل وضاع جزء منه مع الكسر، وظلت بقايا منه تشير إلى وجوده. وهناك اتفاق على وجوده، وعلى أنه ثُقب تعليق. ووجود هذا الثقب هو الذي أضعف اللوح في هذه النقطة وأدى إلى انكساره.
لكن هناك من لاحظ أن تعليق اللوح من هذا الثقب كان سيجعل النص مقلوباً. وهي ملاحظة وجيهة وسليمة جداً، وتؤيد فرضيتي. فالثقب وضع لتعليق اللوح عندما كان النص يكتب عمودياً. أما النص الأحدث الأفقي، فلا يتوافق مع تعليق اللوح من الثقب. الحروف الثلاثة التي تبقت من النص العمودي القديم فقط هي التي تتوافق مع تعليق اللوح من الثقب. بل إن قراءتها بشكل سليم لا يتم إلا إذا قلبنا اللوح ليأخذ وضعه القديم عندما كان يعلق من الثقب بكتابته العمودية. وقلب اللوح سيؤدي إلى ضياع «أبي أو أبياهو» وإلى دمار فرضية أن اللغة عبرية انطلاقاً من الاسم المفترض. ذلك أن هذا الاسم كان جزءاً من فرضية أن النقش عبري.

أبي أم يرح؟
وكما هو معلوم، فإن كلمة «يرح» أو «يرحو» تتكرر ثماني مرات في النقش. فكل سطر يبدأ بهذه الكلمة، في حين أنها تتكرر في السطر الأول مرتين. وقد افترض أن هذه الكلمة تعني: شهر. ومن أجل هذا، حُكم بأننا مع روزنامة سنوية. لكن ما أود إثارة الانتباه إليه هنا أن الحروف الثلاثة المتبقية من النص الأقدم، تتوافق مع أول حروف كلمة «يرح» المركزية في النقش. فقط فإن الحرف الثالث يبدو مختلفاً قليلاً.

إلى اليمين: ثلاثة نماذج من كلمة «يرح» وإلى اليسار: الأحرف المتبقية من النص الأقدم

وإذا أخذنا في الاعتبار أن هذا الحرف غير واضح جداً، وأن المنطقة حوله مشوشة جداً، لا يمكن استبعاد أن يكون هذا الحرف هو ذاته الحرف حاء المفترض في كلمة «يرح»، وأن رسمه الفعلي يشبه هذا الحرف. وحرف الحاء المفترض في نص الروزنامة يشبه حرف E الإنكليزي، لكن مضافاً إليه خط آخر يجعله مستطيلاً مقفلاً يقسمه خط من وسطه. والحرف الثالث يبدو قريباً جداً من هذا الشكل، كما نرى:

يميناً: نماذج لحرف الحاء في النقش. يساراً: الحرف الثالث في الكلمة العمودية كما أراه

بذا فالحروف الثلاثية المتبقية من النص العمودي الممحو تكرر كلمة «يرح» المركزية في النقش. ولو صح هذا، فإنّه يشير إلى أن النص الأقدم الممحو كان في ما يبدو مشابهاً بشكل ما للنص الأفقي الذي بين أيدينا، وأن النص الأحدث كرّره أو كرّر الكلمة التي قرئت «يرح» على الأقل. وهذا الاستخلاص من شأنه أن يدعم فكرة من يقولون بأنّ اللوح كان لوح تمرين على الكتابة، أي لوح نسخ، لتلميذ مدرسة. فالتلميذ يمسح النص القديم الذي نسخه، لكي يكتب نصاً آخر غيره. لكن ما دام النص القديم يشابه النص الأحدث، فيجب أن يكون التلميذ قد محى النص القديم، ثم أعاد نسخه من جديد. وفي هذه الحال، يكون المعلم قد طلب منه إعادة نسخ النص من جديد لأنه وقع في أخطاء محددة عند كتابة النص القديم. بذا فالنص الأحدث تصحيح ما للنص الأقدم.
لكن ثقب التعليق المربع في اللوح، هو نقطة ضعف هذه الفرضية. إذ يفترض أن لوح الطالب يظل بين يديه، وأنّ لا حاجة إلى تعليقه. فما قد يُعلق إنما هو النص الأصلي الذي ينسخ عنه التلميذ. ولا يستقيم أن يكون لوحنا الصغير لوح المعلم. فلوح المعلم يجب أن يكون أكبر من لوحنا هذا لكي يراه التلاميذ بوضوح من بعيد. بناء عليه، يمكن للمرء أن يحكم أنّ اللوح لم يكن لوح نسخ ولا لوح معلم مدرسة.

إذن، فما الذي يمكن أن يكونه؟
لا يمكن تقديم إجابة نهائية مؤكدة عن هذا السؤال قبل تقديم قراءة آمنة مضمونة للنص كله. وتقديري أن القراءة السائدة ليست آمنة أبداً، بل ليست صحيحة بالمطلق. إنها قراءة موهومة. بذا فما يمكنني اقتراحه الآن هو أن اللوح كان لوحاً في محل عطّارة تكتب فيه طلبيات الأدوية والعطور حتى لا تنسى، ثم تمحى حين يجري تلبية الطلبيات. بذا يكون اللوح قد استخدم مرات عدة لكتابة طلبيات جديدة في كل مرة. والحقيقة أن سطح اللوح مزدحم ببقايا حروف من كتابات أقدم، كما تتفق الغالبية، ما يؤيد هذا الاقتراح. وأغلب الظن أنّ فتياناً يعملون في المحل هم من كانوا يكتبون لائحة الطلبيات في كل مرة. ولهذا السبب تختلف الخطوط وأشكال الحروف في النقش بقوة. فهي ليست من صنع يد واحدة، بل عدة أياد، وعلى مدى عدة أيام على الأغلب.
بناء على هذا الاستخلاص، فإن نقش جازر ليس روزنامة أبداً، بل هو لائحة طلبيات لأدوية ومقويات، تهيمن فيها طلبية واحدة هي التي قرئت على أنها «يرح» و«يرحو» وافترضَ أنها تعني: شهر. لكن الحقيقة أنه لا توجد أي شهور في النص، وكما أنه لا توجد روزنامة. فدكان العطار يتعامل مع طلبيات أدوية وعطور ومقويات، لا مع شهور. والكلمة التي قرئت على أنها «يرح» يجب أن تقرأ «حدض». والحدض هذا دواء ومقوٍّ معروف جداً في تاريخ المنطقة. وقد ظل لآلاف السنوات مادة تجارية عالية القيمة. وهو في العربية بصيغة «حضض». لكنّ هناك صيغاً أخرى لهذا الاسم: حُضُض، حُضَضُ، حُضَظ، حُظُظ، حُظَظ.
وإذا كان مع «حدض» وليس «يرح» فقد بطلت فرضية أن الخط فينيقي- كنعاني. فالحرف الأول في الكلمة التي افترض أنه ياء فينيقية هو حرف الحاء فعلياً. أما الحرف الثالث فهو الضاد لا الحاء. وهذا يعني أننا لسنا مع أبجدية فينيقية، بل مع أبجدية خليط، فيها عناصر فينيقية، وعناصر أقرب إلى أبجديات شمال الجزيرة العربية.
وبذا يتضح أن روزنامة جازر ليست روزنامة، وأن ملايين الصفحات التي كتبت حول هذه الروزنامة المفترضة ضاعت هباء.

* شاعر وباحث فلسطيني