من خلال مقاربة نقدية تجمع الكلاسيكي في الموسيقى بالحداثي، والمحلّي بالعربي والعالمي، صدر أخيراً للناقدة والشاعرة اللبنانية هالة نهرا كتاب «موسيقات وفنون وثقافات» (2022) عن «دار الفارابي» في بيروت، وهو الكتاب الثالث لنهرا بعد «إضاءات موسيقية وفنية» (الفارابي- 2016) وديوانها الشعري الأول «الفرح عنوان الأبد» (الفارابي- 2019). الكتاب الذي ضمنته نهرا مقالات نقدية في الثقافة الفنية والموسيقية، إلى جانب ملاحظات مرتبطة بالموضوع استحضرتها من أسفارها إلى فيينا وسالزبورغ، وبودابست وإسطنبول وتونس، تفتتحه بتعريف للفن والشعر كتوأمين لا ينفصلان: «إن الفن الحقيقي، مقياسٌ حضاري وثقافي للحكم والتقييم، ووسيلةٌ وأداة لإرهاف وتهذيب الذوق، للاستدلال قدر المستطاع عبر بلوغ أو ملامسة جانب من حقيقةٍ غامضة ومجهولة انطلاقاً من المعلوم وللاستنارة، أي جعل العقل متنوّراً وعلى معرفة، كما أنّ الشِّعر هو فنّ الكلام، وأنّ ميادين أدبية عدّة تعكس تفنُّناً ما. الفنّ هو أن يأتيكَ الشجرُ عن طيب خاطرٍ حين يتصحّرُ البصرُ في العقلِ والقلبِ ويلبسُ الأفقُ الشجر..».

في نقدها الحاد لمنصات تحتضن الضحالة الثقافية الاصطناع والانحدار، وثقافة تسعى إلى قولبة العقول والتنميط والنمذجة، تلحظ هالة نهرا في المشهد الثقافي والفني الكثير من «الأشياء المتبدّلة والمتحوّلة بسرعةٍ تفوق السهم في المشهد، في أمكنةٍ صارت تفتقر إلى خصائصها الثقافية والوطنية، وإلى مميزاتها على الصعد كافة». كما لا توفّر من سهام نقدها المركزية الغربية التي تدعي التفوق والأحادية في التكنولوجيا والصناعة لتمتد هذه النظرة إلى الفنون والموسيقى، فترى «أنّ القشور الحضارية هي التي بات البعض يتدثّر بها، مع تقمُّص ذيل الغرب، لا روحه الجميلة، في الـShow Business الطاغي بنسبة كبيرة لدينا حتى يومنا هذا. إنّ أكبر سخافة دارجة لم تعد تجذب في يومنا هذا بنسبة عالية كما كانت تفعل منذ أعوام لأنها باخت وصارت مكرورة. مع ذلك، فإن التأثير السلبي لها على الأجيال ليس ضئيلاً، ومن المحتّم تأسيس مداميك ثقافية وفنية معاصرة موازية للحفر في الوعي وفي سبيل استجلاب النهوض وضوء الأفق». في تناولها للموسيقى استناداً إلى خلفية نظرية مدركة لتاريخ الموسيقى وارتباطاتها بالمدارك الإنسانية الأخرى، وانطلاقاً من تجربة عملية في العزف والتأليف، خلصت نهرا إلى «أنّ الموسيقى تُحرّر مادّة اللغة الكلامية من ثقلها وتقرّب المعنى إلى القلب والعقل. الإبداع والفنّ يجدان غالباً منافذَ للضوء ويشقّان كوّةً لا يُستهان بأهمّيتها في الجدار السميك حتى في أحلك الظروف، انطلاقاً من القوّة التي يختزنانها ويدّخرانها كذخيرة للمواجهة والتحدّي والاستمرار وارتكازاً عليها».
في تناولها الشعر الذي يجد لنفسه مساحات مشتركة كثيرة مع الموسيقى لا سيما في التراث العربي حيث لا تخلو تعريفات الجرجاني والقرطاجني وقدامة بن جعفر وابن رشيق من إشارة إلى اللحن والإيقاع في القصيدة، وباستشهادات تستلهمها من الجناح الآخر للثقافة العالمية، من تولستوي وبول إيلوار (بتعريفه الشهير للشعر كباعث على الرؤية) وأبولينير، تشير هالة نهرا إلى أنّ الفصل بين الأدب والشعر من جهة، وبين الفن من جهةٍ أخرى، يعود حتماً إلى سوء تفاهم مع الفن وافتقار الحالة الثقافية (لا سيما العربية) إلى تعريف قيمي واسع يخرج به من المحلية الضيقة، ويحرره من التعميمات والمفاهيم غير الناضجة أو المجتزأة أو المنقولة حرفياً عن الغرب من دون اختبار جديّ لمدى فعاليتها في أفق ثقافي مغاير، فلا بدّ بالتالي من نحت قاموس جدي للمصطلحات والمفاهيم والتصنيفات الديناميكية في وسط ثقافي وفني راكد ومحنّط، وفتح أفق الممارسة لتجربة هذه المفاهيم واختبارها على أسس جديدة تنطلق من المحلي لتبلغ العالمي، ومن اعتبار الشعر والموسيقي في قائمة الفنون السامية التي تلفظ الكيتش ومستسهلي الكتابة وأنصاف الشعراء والفنانين ممن تسهم وسائل التواصل الاجتماعي اليوم في تقديمهم كفقاعات تستفيد في نموها الطفيلي من فضاءات الميديا المفتوحة على الغث والسمين.
يعقد الكتاب مقارنات بين الأنواع الموسيقية المختلفة


بين فصل يتناول «تأثير الموسيقى على دماغ الإنسان والنفْس البشرية» لا تفوّت فيه نهرا الإشارة إلى دور ممكن للموسيقى لمعالجة التبعات المهولة لانفجار الرابع من آب على الصحة النفسية للضحايا وفي بناء ذاكرة فردية وجماعية قائمة على رؤية فنية إنسانية راقية ومرهفة، وفصول أخرى تتناول فيها أعلاماً في الموسيقى من الشرق والغرب مثل صباح فخري، وزكريا أحمد، وليلى مراد ونور الهدى وفيروز، ومارسيل خليفة ومحمد رضا شجريان، وزياد الرحباني، يعقد الكتاب مقارنات بين الأنواع الموسيقية المختلفة مثل الجاز في تجلياته بين الفضاء الأميركي والروسي والاذري والشرقي، والموسيقى العربية ومقاماتها ومواءمتها بين الموسيقى البيزنطية والترانيم السريانية وتجويد القرآن وصولاً إلى الغناء الاستهلاكي الذي تدرجه نهرا في نوع من البوب الشرقي كتنويع لا يمكنه نسف ألف عام من التراث الموسيقي العربي وخلخلة أساساته. وتشير إلى محطات مهمة في التاريخ الموسيقي اللبناني كتأسيس المسرح الوطني، وتأسيس «الأوركسترا الوطنية اللبنانية للموسيقى الشرق- عربية»، إضافة إلى فصل خاص بتأثير وباء كورونا والعزلة القسرية على نتاج وأداء المبدعين والفنانين وحوارات أجرتها نهرا مع أعلام في الموسيقى اللبنانية والعربية. في مقاربة أبعد ما تكون عن اللغة الأكاديمية الجامدة والنظريات الاستيطيقية المعقدة، تضع هالة نهرا في كتابها الأخير اللبِنة الثانية في مشروعها الموسيقي النقدي. ورغم أنّ الكتاب احتوى جرعة سياسية أقلّ مقارنة بكتابها الأول «إضاءات موسيقية وفنية»، الذي ضمنته فصلاً مميزاً يربط الأغنية العربية بالأزمات والاضطرابات السياسية منذ مطالع القرن العشرين مروراً بسنوات النضال والتحرر من الاستعمار وصولاً إلى الربيع العربي المرّ، إلا أن نهرا تحتفظ فيه بنظرتها إلى النقد على أنه «متابعات أحياناً وقد يشكل جزئياً تاريخاً من نوع آخر لناحية محاولة صوغ الواقع والحدث وكتابتهما نقدياً ومساءلتهما من أجل بلورتهما، ويشكّل جسراً مختلفاً بين النتاج والمتلقّي، وبين المؤلف والنتاج... النقد شغف قديم لديّ، شغف معرفي بالموسيقى، ثم المسرح، بالثقافة؛ ثقافة السؤال، بالإنسان...».