«وقد رأيت من علمائنا من يستجيد الشعر السخيف لتقدم قائله ويضعه في متخيره، ويرذل الشعر الرصين، ولا عيب له عنده إلا أنه قيل في زمنه أو أنه رأى قائله ابن قتيبة الشعر و الشعراء» (محمد الصغير أولاد أحمد ـــ «مسودة وطن» ــ ص 4). لقد أكد هوسرل منذ القرن العشرين على منحى جديد في الوعي يجعله قصداً للعالم ،أي هو «الوعي بشيء ما». وتوجه انخراطي من الذات لتكون للعالم. يؤكد الوعي الهوسرلي بمعناه الفينومينولوجي على تداخل ضروري بين الأنا وأشياء العالم، وعلى انفتاح الذات على المعيش. بهذا المعنى، يغادر هوسرل فضاء الوعي السائد في القرن السابع عشر الذي أكده ديكارت بجعله الكوجيتو «أنا أشك أنا أفكر إذن أنا موجود» لحظة تفكير خالصة جوهرها تعالي الأنا عن كل الموجودات.لقد جسدت الفينومينولوجيا مع هوسرل ثم مع مارلوبنتي في القرن العشرين فرصة جادة للتوجهات الفنية الراغبة في تنويع مصادر الفهم والتعبير عن العالم. ولعل قصائد الشاعر التونسي الصغير أولاد أحمد تحمل من ثراء عوالمها ما يجعلنا نقف على أبعاد قصديتها للعالم، ذلك أننا نلاحظ في حميمية علاقتها به هدماً للموروث وثورة في الكتابة وقصدية تتجه للمعيش .ذاك هو الشاعر التونسي الصغير أولاد أحمد، صوت شعري تونسي يحمل معنى الكتابة وسؤال الحياة، في نصه تكمن لذة البحث والتأويل.
بعد ست سنوات على رحيله، نمدّ أسس لقاء جديد بينه وبين قارئه اعتماداً على مجموعته الشعرية «مسودة وطن» الصادرة عن «الدار العربية للكتاب ـ تونس» سنة 2015 ترجمه للفرنسية الشاعر والجامعي أيمن حسن Brouillon de partie صدر سنة 2021 في فرنسا عن «دار مانيفست/لوميرل موكور». هو عمل يحتوي على مختارات من كتاباته الشعرية، تخفي علاقة صاحبها بقصدية جادة للعالم من جهة الوعي بالذات والكتابة والحياة.
فأي معنى للقصدية في شعر محمد الصغير أولاد أحمد؟ وهل بإمكاننا أن نعثر في مجموعته «مسودة وطن» على خصوصية فنية ومضمونية تكشف عمق قصدية ذاته لأشياء العالم وللمعيش؟
1
«القصدية» وعي خصوصي بأمكنة وأزمنة العالم
نحب البلاد
كما لا يحب
البلاد أحد

صباحا
مساء
وقبل الصباح
وبعد المساء
ويوم الأحد

ولو قتلونا
كما قتلونا
ولو شردونا
كما شرّدونا
لعدنا غزاة
لهذا البلد
مصدر العمل ص5
في هذا العمل، يتنافذ أولا أحمد مع أطر المكان بقصد المعرفة، فهو يدخل فيها لا للإقامة بل بدافع الاكتشاف. هو يتخذها كأمكنة ظرفية يستلهم منها لحظته كمعايشة تثري وجوده الشعري. كذلك يتعرف الشاعر على وجوه الأمكنة وشخوصها ومكوناتها لينقل القارئ إلى عالمه المختلف عن ظاهرها وأسمائها وما نعرفه عنها. يريدها أمكنة لوطن يقصد لرمزيته ولثراء دلالاته، هي معيش يكشف عن ذات تتفسح في تاريخها بمعتقداتها ومقدساتها، فتكشف لقارئها هذا اللامعلوم وذاك الغائب. وطن يبحث عن وجه آخر في زمن جديد. إن الشاعر يفتش عن تونس جديدة وسلطة أخرى وشعب مريد أو هكذا يريد بلداً آخر في حضور مكاني يتجاوز المرئي و موجود المعيش.
لعله يحاور بالشعر أمكنة لا إدراك لها إلا بقصد أزمنتها، فتصبح زمكانية انفتاح الشعر على فضاء خيال المحاورة العميقة، شهادة عن وحدانية حبه للبلاد ودفاعه الصريح عن هيامه بها، فهو المحب الصامد الذي يتحدى لأجلها كل المصائب بما في ذلك الموت. زمكانية تتداخل فيها مشاعر صاحبها بين الآن والمستقبل، حيث يولد البلد الجديد. عشق ذو شعرية تأبى انكسار الآن فتسعى لبناء سرمدية وجودها في حياة رمزية قادمة. ربما كان عشق الشاعر لثورة تونسية كتب عنها قبل أن تقوم، ثورة تأخرت بفعل موضوعية الزمكان وتاريخية تقتضيها ضرورة تراكم التناقضات، لتحضر في تاريخ ثوري معلوم (17 ديسمبر 2010). تاريخ أدركه الشاعر وكتب عنه، فعاصر زمنية الثورة التي تنبأ بها ليبقى أثر القول شهادة على نبوءة قصده للزمكان. إن الشعراء أنبياء هم بالخيال يكتبون تاريخ وعيهم بمستقبل العالم.
2
في «قصدية» موضوعات العالم أو في الهدم وإعادة بناء الأشياء والشخوص
«بم كتب الأوائل قصائدهم؟
- بالجزر المبتل
وبأي من أغصان الغابة نسخ الرسل أسفارهم؟
-بريش العصافير المذبوحة
وبماذا تكتب أنت؟
-بأصابع قدميّ
أدق بهما على التراب الطري دون نظام مسبق مثل
حصان جامح . وبمجرد أن يستقيم إيقاع ، أو تشكل أجنحة لصورة
تسقط الحروف على الورقة
وتتوزع على البياض ، كما يتوزع الجنود الأمويون في
صحاري الشرق الأوسط»
مصدر العمل ص9
الشعر عند أولاد أحمد تجسده في هذا العمل ذات مهوسة بالفعل في الزمكان ثائرة على متلقيها، لذا قامت بقصده لإعادة ترتيبه وبنائه وفق وعي شعري جديد. وعي شعري كافر بزمكان الآن لذلك عمد الشاعر لتخريبه بقصد بناء قصدية جديدة بالأشياء.
قصدية الثائر على نظام الأشياء وقلب علاقته بها، فهو الشاعر الذي لا يتعرف عليها إلا ليفعل فيها أو هو المنقلب على عالمها متنكرا لحضورها. هي موجودات غريبة عنه لذا كانت ذاته الشاعرة تدعوه للانقلاب على وجودها وبناء وعي جديد بها وبمكوناتها. إنها أمكنة فاسدة تجمد حلوله فيها وتعيق حاضره وذاكرته وكيانه، لذا كان عليه هدمها بقصد تجديد الانتماء لكل محتوياتها وتفصيلاتها. إنه عالم أولاد أحمد الشعري فضاء ثوري يختلف عن الآخرين لذلك كان عليه الثأر من كل مكونات الخارج باستبداله بأشياء أجمل يقدمها للقارئ المفترض وفق خصوصية ريشته وطهورية ماء حبره وعمق نظرته للعالم.
إن الشاعر يعايش شخوص الزمكان ويتوق إلى محاولة هدمها فيتجه إلى تحطيم قيمها غير أنه يصطدم بمقاومة الخصوم أعداء الإصلاح و الحياة. إنه نبي أو هو الشاعر أو هو حامل رسالة التغيير التي تربص بها المحافظون في مجال السياسة والقيم. لذلك كانت رحلة قصدية الزمكان تفترض حضور قوة مساعدة له ذات جوهر خفي ومفارق وعجيب تنصهر مع إرادته للهدم وللبناء:
الهي:
أعني عليهم
لقد عقروا ناقتي
وأباحوا دمي ...
في بيوت أذنت بأن لا يراق دم فوق سجادها
إلهي :
أعوذ بك الآن من شر أهلي
يبيعون خمرا رديئا
ويؤذون ليل السكارى البريء؟
مصدر العمل ص147
رمزية شعرية تحاور المقدس وتنصهر معه لبناء علاقة جديدة معه عبر الكتابة والموقف من العالم وموضوعات تشكلاته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية.
3
الشعر قصد وإرادة للتغيير
"وانت تنظر في الرماد رأيتني:
سوداء مثل حذائك البراق...
لا أقوى على التحديق فيك
أنا تونس يا أخي :
محروقة :
لا شعر لي
لا عين لي
لا أذن لي
لا فم لي ...
وكما ترى قد لا أعود إلى الحياة
وقد أعود
صريحة كصياح ديك
مصدر العمل ص-31 -32
الكتابة لا تنفصل عن الموقف. ففي هذه القصيدة «قصيدة الفراشة» التي بوبها الشاعر في «مسودة وطن» ضمن «قصائد الثورة»، كتبت يوم 28 كانون الأول (ديسمبر) 2010 تاريخ زيارة الرئيس التونسي بن علي لرمز الثورة محمد البوعزيزي الذي أشعل النار في جسده يوم 17 كانون الأول 2010 في سيدي بوزيد، في مستشفى الحروق البليغة في «بن عروس». كان لقاء الضحية وجلاده. لقاء حصل بين الفاعل و المفعول به ، بين رمز الاستبداد ورمز الثورة تدور أحداث القصيدة ، إنهما في زمكان واحد يتقابلان وجها لوجه ، فيتخيل الشاعر هذا الحوار الدامي والمسكون بجموح المبدع الطامع في تغيير الموجود. فعل كتابة يغادر المألوف متوحداً بقصدية هدامة للمرئي وللمسكوت عنه. مشهد مرعب يقتنصه الشاعر من زمكان موضوعي ليدخل بالقارئ لزمن معيشي جديد تتداخل فيه الذات الشعرية المفعمة بالتغيير الجمالي الفني مع وجود واقعي يتوق لمغادرة سوء الموجود نحو كيان أفضل.
قصديتان تتلازمان، الأولى تشتغل في مجال تشكل البنية الشعرية للقصيد والثانية مرماها المجتمع وما يعنيه الفضاء الجماهيري كمتلقي مقصود برسالة فنية جوهرها التغيير.
ففي القصدية الأولى، نلحظ هذا التداخل بين الفنون الذي يأخذ القارئ إلى كتابة ينفتح فيها على فوضى الأجناس، ذلك أن صاحبها سعى إلى المزج بين فنّي القول «الشعر والنثر» من جهة وبين فنّي البصر «السينما والرسم» من جهة أخرى، فيكون المتخيل مزيجاً من خطابات فنية متنوعة تدافع عن الانتماء للإبداع وللفن خارج الحرص على التصنيف. خطاب في الفنون يذكر القارئ بكتابات الفلسفة والنقد والفن التي حملتها لنا عظمة كتابات نيتشه وبارت وجينات التي أكدت على عظمة الفن وعلى تأسيسها للمعنى ولثراء الدلالة ومغادرة المألوف.
أما القصدية الثانية، فهي التي تختار لها وجهة قصد الحياة فتتجه للجمهور و للواقع حيث يصبح الفن رسالة في المعيش بغاية تغيير الموجود الاجتماعي والانقلاب على جميع مفاهيمه التقليدية المكرسة لايديولوجية طبقية تغالط الوعي والوجود.
إن أولاد أحمد في «مسودة وطن» كان حاملاً لقصدية معيشية تنتشي بالحياة ولا تمل من نقد السائد. لذلك كان حاملاً لهمّ التغيير فجسد بحق شخصية «المثقف
العضوي» الذي يرفض أن يكون على شاكلة المثقف التقليدي المسكون بتبرير الواقع وترديد متداول مفاهيمه ومعارفه. لقد ظل أولاد أحمد طول حياته قلقاً انفعالياً وكلمته متسلطة على مخالفيه وذات وقع، فتحمل من ذاك القصد مسؤوليته خيراً وشراً. رسالة حملته بعيداً عن نخبة شعرية اختارت الكتابة الكلاسيكية والابتعاد عن مغامرة التجريب الشعري وتنويع عوالمها في بناء القصيدة. لقد كان أولاد أحمد وعلى خلاف البعض من حملة الحرف من جيله الشعري في الساحة التونسية خاصة والعربية عامة متخندقاً في مغامرة الرسالة الشعرية ليجعل الحرف يقصد أعداء الحرية والحياة ويهدد صوته محبي الاستكانة والمحافظين عاشقي الدفاع عن الموروث. لعل أولاد أحمد كان سيكتب القصائد الأروع ويقصد العالم بعمق أشد ولكن الإنسان ليس بإله إنه متناهي في الزمان والمكان.