«جاءت تك المحاورات نتيجة لدافع طبيعي طاف بعقلي لكي أسطر أي جزء عن تجربتي أرى أنه ذو قيمة ومميز. إضافة إلى ذلك، كنت أشعر دائماً أنني بحاجة إلى التعلم، ليس فقط عندما التقيت بهذا الرجل العظيم، بل عندما عشت معه لسنوات. كنت توّاقاً لأن التقط وأسجّل فحوى كلماته كي يتسنّى لي أن أمتلكها في ما تبقّى لي من العمر. عندما أفكّر في أن تلك المحاورات الثرية والشاملة معه جعلتني أعيش في غاية السعادة لفترة امتدّت لتسع سنوات، أبدو كأنني طفل يحاول أن يلتقط مطر الربيع المنعش بيديه المفتوحتين. بيْدَ أنه يجد أن معظمه قد تسرّب من بين أصابعه».
غوته بريشة جورج مليكيور كرواس (حوالى عام 1776)

بهذه الكلمات، يصدّر يوهان بيتر أيكرمان (١٧٩٢-١٨٥٤) محاوراته مع شاعر ألمانيا الأبرز وعقلها التنويري العظيم يوهان فولفانغ فون غوته (١٧٤٩-١٨٣٢) الذي نقلته «دار الرافدين» أخيراً (بيروت/بغداد) إلى لغة الضاد، بحلّة أنيقة في جزأيه بترجمة السوداني ابراهيم جار الله. نشر «محاورات غوته» إذن في الأصل بواسطة ايكرمان، صديق غوته وتلميذه الشخصي وأحد حوارييه باللغة الألمانية عام ١٨٣٦، وضّم ذكريات المؤلف كشاعر متوسط الموهبة لمحادثاته مع الكاتب والفيلسوف الألماني خلال السنوات التسع الأخيرة من حياته.
نشر ايكرمان مجلداً آخر عام ١٨٤٨ مستخدماً ذكرياته وأحاديث حصل عليها من الباحث السويسري سوريت، صديق غوته أيضاً. لم يحقق الكتاب في البداية نجاحاً ملموساً في ألمانيا لتراجع شعبية غوته وقتها، لكنه سرعان ما أصبح شائعاً في الصالونات الأدبية الأوروبية، وساعد في صناعة سمعة غوته الأدبية في ألمانيا والعالم وإعادة الاهتمام والتقدير لصاحب «فاوست» و«آلام فيرتر» و«الأنساب المختارة». على مدى تسع سنوات، سيجمع ايكرمان كلمات ملهمه، الذي لا يُضعِف منه العمر شعلة العبقرية ولا يثبط من عزيمته: «يبدو أن الشتاء والصيف دائماً ما يتقاتلان فيه، لكن الشيء الرائع أن نرى الشباب دائماً يكسب الرهان في هذا الرجل العجوز». لم يرض ايكرمان أن يلعب مع غوته دور «مفرّغ الكاسيت» حصراً، وإنما بتحفيز  واستفزاز واستجواب من قبل هذا التلميذ المخلص، سوف يتتبع غوته مسارات حياته ومسارات عمله الأدبي والفني، ويناقش في الدين والسياسة والأدب والشعر والعلوم الطبيعية، وبخاصة نظريته الغريبة حول الألوان، والتي صرف عليها شطراً من حياته. في مسيرته في فايمار بصحبة ايكرمان، يشرح صاحب «الديوان الشرقي» الركائز الأساسية في فكره وإبداعه، ويستعرض شخصيات من التاريخ والأدب والشعر مثل نابليون وبايرون وشيلر ومانزوني. تتمتع أعين ذاكرة غوته بالحيوية، بينما تنأى أحكامه مع التقدّم في العمر عن الحكمة والسخرية. لا يتنكر غوته في أحاديثه للشاب الرومانسي والعاطفي الذي كان مملوءاً بالنار التي سرقها بروميثيوس من الآلهة، لكن الخلافات الأدبية يخفت إيقاعها مع العمر والمناقشات النظرية تبدو مملة في نظره. إنه يستمع فقط إلى هذا «الشيطان» الداخلي، «الحر والمندفع»، الذي يستنسخ إيكرمان أسراره المتدفقة. مع ذلك، تظهر الكثير من  أسرار غوته في منعطفات هذه الكلمات بحرية: الدعوة إلى فكر عالمي حر ومنفتح لا يرتكز حصراً على المركزية الأوروبية وتفوّق الرجل الأبيض. في محاورة ٣١ كانون الثاني (يناير) ١٨٢٧، يتناول غوته بالنقد قصة صينية قائلاً: «معهم الطبيعة الخارجية مرتبطة بشخصية الإنسان، والأساطير تدمج في القصص، وتستخدم كأمثال مثل: البنت الخفيفة الظل والرشيقة لا تستطيع أن تحفظ توازنها على الزهرة ولا تكسرها، وهناك العديد من الأساطير التي تتمحور حول الأخلاق. نسبة إلى هذا الاعتدال الصارم، استطاعت الامبراطورية الصينية أن تمتد لآلاف السنين»، ليخلص إلى القول: «أصبحت على اقتناع تام بأن الشعر ملكية عالمية للبشرية، يكشف عن نفسه في كل مكان وزمان وفي المئات والمئات من البشر. نجد أحدهم ينظُم أفضل من الآخر، ويسبح على السطح لمسافة أطول من غيره...إلا أننا نحن الألمان ننزلق بسهولة في هذا الغرور المتحذلق عندما لا ننظر وراء الدائرة الضيقة التي تحيط بنا، ولهذا أحبّ أن أنظر حولي في الأمم الأخرى وأنصح كل فرد بذلك». النظر في «محاورات غوته» يجعلنا، في إحالة إلى أحد عناوين كتبه، ننظر بعين إلى النور، وبالعين الأخرى إلى الشعر، فراشة الوجود الملوّنة.