بيار بايار يريد كل شيء: متعة النص وصلابة النظرية والاعتراف الأكاديمي وقوائم الـ «بيست سيلر»... عادة ما يظهر هذا الستينيّ النحيف الشاحب مرتدياً لباساً أسود يلتصق بجلده، يقود مُحاورَه بلا رحمة بين سراديب من الكتب إلى غرفة ضيقة حيث يكتب ويستمع لجلسات مرضاه قبل أن يسأله بإلحاح: «هاه؟ ما رأيك في نظريتي؟»
في مواجهة النصوص التي يحبها، ثمة مُنظّر يسكن بيار بايار، يدفعه إلى درجة «الجنون التأويلي» كأنها الطريقة الوحيدة التي وجدها كي يتخلص من الكتب التي تسكنه وينأى عنها. من غيره ينشغل بالبحث عن قاتل روجر أكرويد الأرمل الريفي الثري في رواية أغاثا كريستي؟ عن الطرق لإنقاذ الأعمال الأدبية الفاشلة؟ وكيف نتحدث في كتب لم نقرأها؟ ينجح بايار في جعل اللغة كائناً خفيف الظلّ، ويجهد للإتيان بمجاز واقعي يكسر الحاجز بين الخيال والنظرية، يقول: «الأدب والتحليل النفسي حليفان في الفضاءات المعقّدة التي يفتحانها في مواجهة الخطاب السائد الذي أصبح اليوم كاريكاتورياً إلى أبعد الحدود».
أخذ المحلل النفسي والأستاذ المحاضر في الأدب الفرنسي على عاتقه مهمة الكشف عن خفايا النفس، لكنه لم يستقِ شواهده الاختبارية من الواقع المباشر أو التجربة اليومية، وإنّما من السجلات الأدبية بوصفها تختزل التجربة البشرية الأعمق. في كتبه، لا يتمّ الالتفات إلى الشخصيات الأدبية باعتبارها مجرد نماذج تخييلية، وإنّما كذوات تتمتّع بوجود تاريخي فعلي. لكن، «للأسف ثمة من يصدّق كل ما يقرأه مثل دون كيشوت» يقول بحنق حين يُقيَّم كتابه «كيف نتحدث عن كتب لم نقرأها» كنوع من الدليل الذكي الذي يفتح منفذاً للهرب من الكتب الجدية والشاقة.
القُراء من مختلف أنحاء العالم شكروا بيار بايار على «السماح لهم بعدم القراءة»، وقد سمعناه يشجع هذا التوجه الذي غذّى نجاحه بجمل مثيرة على شاكلة: «من الممكن جداً أن تخوض نقاشاً محتدماً عن كتاب لم نقرأه حتى ـ بل ربما خصوصاً ـ لو كان محاورك لم يقرأ الكتاب هو أيضاً».
حجة إضافية في يد منتقديه الذين استفزّتهم «الطرق التي نسلكها لكي لا نقرأ» واعتبروا خطابه تشجيعاً للعزوف عن القراءة، يجتذب الشباب الذين يستهويهم أي شيء أكثر بكثير مما يفعل الكتاب. لكن هذا التهجّم يعزوه بايار إلى سوء الفهم وعدم القدرة على التفريق بين مستويات الخطاب، بين الجد والسخرية، إذ ينبغي أن ننتبه إلى أن الكثير من الأمثلة التي يسوقها ليشيّد عليها بنيانه النظري مستقاة من روايات. يقول: «عدد الأشخاص الذين اعترفوا لي بمعاناتهم مع القراءة مذهل! ومن الجيد أن يكون كتابي قادراً على ترميم الجراح النرجسية، لكنني لم أكتبه لهذا الغرض! لم أنصح أبداً بعدم القراءة. وكيف لي أن أفعل ذلك وقد تطلّب مني هذا الكتاب عدداً مهولاً من القراءات». لعلّ المفارقة أن بايار كان يبحث لوضع كتابه عن الشخصيات التي قادتها الظروف إلى مواقف حرجة تُحتّم عليها التحدث عن الكتب التي لم تقرأها. وقد أعاد قراءة فيليب روث مثلاً، مقتنعاً أنه سيجد شيئاً ما، دون جدوى.
مدخل الكتاب يأتي بأسلوب حكواتي مشوّق لكنه ملغوم: «ولدت في بيئة لا نقرأ فيها إلا القليل، وبالكاد نجد لذة في هذا النشاط، وعلى أي حال، لا أملك الوقت الكافي لأكرس نفسي له». وليس علينا نحن القراء أن نصدق هذه الشائعة، فقد كان بايار طفلاً مفتوناً بمحاولات أخته للكتابة ولطالما صرّح بأنه يقرأ كي يكتب «ودائماً بدافع الإعجاب أو الغيرة». مكتبة العائلة لم تكن تخلو من مؤلفين أمثال دانيال روبس، وجورج برنانوس وهو نفسه كان يلتهم كتابين عندما كان يدرّس في المعاهد الثانوية في الشمال، وكانت الرحلة تستغرق أربع ساعات بالقطار يملؤها برواية في الطريق إلى هناك، وأخرى عند العودة. وبالتالي من المضحك أن نقول إنه يشاركنا خبرته العميقة في «اللّاقراءة» حتى حين يدفعنا هو للضحك بخبث: «باعتباري مدرّساً في الجامعة، لا يمكنني أن أتجنب واجب التعليق على كتب لم أفتحها».
عند هذا الحد، يمكننا الانتقال إلى زاوية أوسع من رؤية بايار، إذ يعتبر أن القراءة هي أيضاً لا قراءة لأن فعل الإمساك بكتاب وفتحه هو أيضاً فعلٌ لا إرادي يتمثل في إغلاق كل الكتب الأخرى التي كان من الممكن أن نختارها. لكن كيف نشقّ طريقنا بين كتب العالم كلها؟ يُري بايار القارئ أن المهم ليس أن يقرأ هذا الكتاب أو ذلك «فتلك مضيعة للوقت»، بل أن ينظر إلى مجموع الكتب نظرة تُسمّيها إحدى شخصيات موزيل «نظرة شمولية». رواية «رجل بلا صفات» تُذكّرنا بهذه الإشكالية القديمة بين الثقافة واللانهاية، وتقدّم أحد الحلول الممكنة لما نشعر به من إحباط ومحدودية أمام العدد الهائل من الكتب التي سنظل جاهلين بها إلى الأبد، حيث يصرّح أمين المكتبة بحلّ سهل التطبيق: «أتريد أن أخبرك كيف أعرف كل الكتب؟ لأنني لا أقرأ أياً منها».
وهنا أيضاً يأخذ النقاد على بايار عدم اهتمامه بمضمون الكتاب لمصلحة بما يسميه «موقعه»، فإذا كان الحديث عن الكتاب متعلقاً بأي شيء آخر ما عدا الكتاب نفسه، تصبح الكتب كلها سواء والكُتّاب على مستوى واحد!
صحيح أن مكتبيّ موزيل يحرص على ألا يدخل إلى محتوى الكتب لكنه ليس مستهزئاً بها مُهمِلاً لها كما يتبادر إلى أذهاننا، على العكس، حبه للكتب ـ ولكن للكتب جميعاً لا لبعضهاـ هو الذي يدفعه إلى أن يبقى بحذرٍ على تخومها كي لا يجرّه اهتمامه الزائد بأحدها إلى إهمال الأخرى. يقول بايار إن من يحشر أنفه في الكتب، فقد خسرته الثقافة برمتها، لأن الثقافة الحقة يحب أن تنزع إلى الاستيعاب الكلي، ولا يجوز أن تُختزل إلى مجرد مراكمة للمعارف التفصيلية. نتيجة البحث عن هذه «الشمولية» هي أن نظرتنا إلى كل كتاب على حدة تتبدل من حيث إننا نتجاوز فرديته لنهتم بالعلاقة التي تربطه بغيره من الكتب. وهذه العلاقات هي ما ينبغي للقارئ أن يسعى للإحاطة بها.
الفهارس إذن، الروابط والصلات هي ما يجب على المثقف أن يتعرف إليه لا هذا الكتاب أو ذاك على وجه التحديد. صاحب «من قتل روجر أكرويد» (1998) ينزع القداسة عن الكتاب قبل أن يتفرغ للكاتب وسلطته حين يتعقب روايات آغاثا كريستي ويعيد فتح التحقيق في القضية البوليسية ليفنّد استنتاجات المحقق البلجيكي الشهير هيركول بوارو، ويثبت لنا أن الرواية مهما كانت خاضعة للسيطرة، تُقدّم دائماً لقرائها هامشاً من المناورة وتدعوهم إلى التعاون بنشاط أكبر مما يعتقدون عادةً أنهم مخوّلون للقيام به. يريد بايار للقارئ أن يتحول من قارئ سلبي إلى قارئ فاعل خلّاق بمعنى آخر: إلى كاتب.
يريد للقارئ أن يتحول من قارئ سلبي إلى قارئ فاعل خلّاق بمعنى آخر: إلى كاتب


على أي حال، الخيال دائماً هو الموضوع الإشكالي الذي يتعارض مع المصداقية في كتابات بيار بايار أو «صديق الـ fake news» ما يسميه منتقدوه، فهو يعتبر الإنسان كائناً لغوياً يعتاش على الحكايات ويرغب بسماع واختلاق القصص، في «كيف نتحدّث عن وقائع لم تحدث؟»، يسوق مثال الصحافي الألماني كلاس ريلوتيوس الذي طُرد من صحيفة «دير شبيغل» بعدما «صاغ» بعض تقاريره بطريقة أدبية: اخترع أسماء أخرى للشخصيات، أضاف بعض التفاصيل من هنا وتكتم على أخرى هناك متناسياً أن عالم الخيال الأدبي لا يتوافق مع النزاهة الصحافية. ولبايار طريقته في المقاربة، إذ يعتبر أنّ الأدب يكثّف الواقع من أجل الوصول إلى شكل من أشكال الحقيقة المختلفة عن الحقيقة التاريخية. وفي النتيجة، من العبث مكافحة القصص أو الاستخبار عنها واستبدالها بالوقائع الصحيحة. ماذا نستفيد نحن كقرّاء حين يعترف ريلوتيوس تحت نير الأوامر الأخلاقية بأنه نادم ويشعر عميقاً بالعار؟ بأنه مريض ويحتاج إلى مساعدة؟ أو حين تعتذر الصحيفة لقرائها الذين «تعرّضوا لاقتباسات احتيالية، تفاصيل شخصية مختلقة أو مشاهد وهمية» بعد نشر هذه القصص المفبركة رغم وجود طاقم متخصّص للتدقيق في صحة الأخبار؟
يستدعي الكتاب أيضاً رواية ميشا ديفونسيكا «البقاء على قيد الحياة مع الذئاب» (1997) حيث تروي كيف تبنّتها الذئاب عندما كانت تعبر أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية، وقد حلل الطبيب النفسي بوريس سيرولنيك هذه الحكاية باعتبارها كذبة تاريخية وحقيقة ذاتية، فلربما احتاجت ميشا إلى أن تروي هذه القصة لنفسها لتحافظ على توازنها النفسي، وقد نجح الكتاب في استقطاب مئات الآلاف من القراء الذين تقبّلوا فكرة أن الذئاب قد تدافع عن قيم العائلة وتتبنّى الأطفال المنكوبين، ما اضطر الكاتبة للتبرير لاحقاً: « كنت أسرد دوماً عن نفسي قصة مختلفة أخرى، حقيقة أخرى». ويروق لبايار أن يستعرض هذه الحقائق الأخرى، هذه القصص المغلوطة ويخبرنا أن فرويد مثلاً صاغ بحوثه عن «الطاقة المكبوتة كمحرك أساسي للإبداع»، استناداً إلى حياة ليوناردو دافنشي الخالية من المغامرات. لكن الأبحاث اللاحقة ستكشف أن حياة دافنشي العاطفية كانت مثيرة ـ خاصة بالنسبة إلى القرن الخامس عشرـ وإن ظلت محاطة بالسرية في فلورنسا فلأنه كان يفضّل رفقة الذكور الأصغر سناً.
ولهذه الأمثلة المتراصّة المبنيّة بإحكام مثل «داون تاون» أن توقعنا في شباك نظرية جديدة: من خلال تعقّب «الأخبار الزائفة» ودحض الأساطير بإصرار ومحو الخرافات وتبديد الأوهام، ألسنا نجازف بتشييد عالم كامل صادق وموثوق وموضوعي ومضمون خالٍ من الأكاذيب؟ عالم بلا خيال، بلا فلسفة، بلا أدب؟

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا