«ممكن تتطلّع فيني؟لأنو حاسس حالي شفّاف،
ما حدا عم يشوفني، ما حدا عم يحكي معي
ما حدا حاسس بوجودي»
(الممثل معن عبد الحق، من مسلسل «تخت شرقي»)
كنتُ هناك حاضرة، شاهدة لكني لم أقل شيئاً، وكذلك هم فعلوا. أخي حسام الابن المدلّل، نُذِرَت كرمى قدومه إلى هذه الدنيا نذورٌ وذُبحت احتفاء به خراف. لم يكمل تعليمه، اكتفى بالمرحلة المتوسطة. تسكّع كثيراً بين المصالح الخاصة وأصحابها إلى أن أفلح أبي بإدخاله إلى السلك العسكري بتقبيل الأيادي ودفع الرشاوى. أبي الذي أمضى سنيّ عمره الستين في أرضه حتى أصبح وجهه وكفاه أكثر سُمرة من بقية جسده. لو رأيته عاري الصدر لصُدمت وما كنت لتتخيل أنّ ذلك اللون القاتم كان في يوم من الأيام بياضاً ناصعاً. لم يكن سهلاً عليه التوسط عند فلان وعلّان من أهالي القرية وهو عزيز النفس الذي لم يحتج أحداً يوماً، لكنّه رضخ لزنّ أمي المتكرر ونحيبها المتواصل. فهي لإيمانها بأنّ الأمهات القديرات عليهن دوماً السعي لتصحيح اعوجاج أبنائهن وتيسير أمور حياتهم، أرادت أن تدبر لابنها ما يمكن أن يؤمن له حياة كريمة. أمي الصلبة والمدبرة لكلّ أمور البيت والعائلة لم تقُم بالمثل مع أخي حسن الأكبر والأبكم. قالت لنا إنه أُصيب في صغره بالحمّى ما أفقده القدرة على النطق. كبرنا واعتدنا كما اعتاد هو على وضعه وكأنه قدر محتوم لا يمكن القيام بشيء حياله. كما اعتدنا على مزاجه السيّئ وصراخه بين الحين والآخر في محاولة منه للتعبير عن استياء أو امتعاض أو موقف لم نستطِع فهمه أو لم نُرِد ذلك.
كنّا جميعاً هناك، في يوم من أيام شهر رمضان نتناول الحلويات بعد إفطار شهي! في خيمة أمام باب بيتنا تظلّلها عريشةٌ احمرّت عناقيدها حتى أصبحت مقصداً للدبابير والزراقط، حين أتى أبو حسان جارنا الخمسيني، صاحب مزرعة الدجاج التي تنتشر رائحتها في أرجاء حارتنا. انتشرت قصة ابنته سارة على كل لسان حتى «عبقت رائحتها» في القرية بأكملها. اكتشف أهلها منذ أسبوع أنها حامل، جُنّ جنونهم وانهالوا عليها بالضرب والشتائم حتى أسقطت الجنين وأُدخلت إلى المستشفى بعد تدخل الجيران لإنقاذها. ولما هدأ روع الأب قليلاً، أراد معرفة هوية الجاني حتى يقتصّ منه ويجبره على تحمل مسؤوليته تجاه ابنته، فعرف من سارة أنّ الفاعل هو أخي حسام، وأتى في تلك الليلة ليشفي غليله! لم يحرّك حسام ساكناً وكأنه كان مستعداً لمثل تلك اللحظة أو هذا ما بدا لي، فأنا أعلم جيداً أنه كان على علاقة بسارة. كنت أعرف بعلاقته بالكثيرات من خلال الأسماء التي تظهر على شاشة هاتفه والرسائل التي تومض ويمكن قراءتها دون الولوج إلى التطبيقات ومن أحاديث طويلة كنت أسمعه يتمتم بها في الليالي الساكنة. بقي حسام جالساً ينفخ الدخان من نرجيلته وكأن الحديث لا يعنيه، لكنه لم يرفع عينيه عن الجمرات المشتعلة ولو لثانية. ويا لسخرية الموقف! في تلك الدقائق، لم يكن أخي حسن وحده الأبكم، كنّا جميعاً كذلك، أبي وأمي وحسن وحتى أنا، إلّا حسام. وحده انتظر أبا حسان حتى انتهى من صراخه ليقول كلمة لم يحتج بعدها لأن يضيف حرفاً. لم يقل سوى اسم صديقه سليم، بكل برودة أعصاب قال اسم صديقه على أنه مشتبه به. استطاع حسام بفعله ذاك أن يجعل الجميع يعتقد أن سارة «من واحد لواحد»، وكان ذلك كفيلاً بإسكات جارنا أبي حسان وكسر عينه. لا أعرف ما كان شعوره في تلك اللحظة، لكن بدا واضحاً أنه بعد تلك الوقاحة لم يرد سوى أن يلملم الموضوع فلا يُضطر إلى البحث عن شرف ابنته إن ضاع عند حسام أم عند سليم!
استيقظوا جميعاً من صمتهم بعد تلك الجملة السحرية. انتفض أبي فجأة وهو الذي لم يُسمع له صوت قبلها، ليقول بصوت خفيض وبنبرة امتزج فيها الخوف مع الإنكار فأتت كلماته متقطعة لكنها حاسمة: «يا زلمي طوّل بالك، إنت بتعرفني منيح وبتعرف تربايتي، ابني حسام ما إلو علاقة ببنتك لا من قريب ولا من بعيد. الله يسامحها بنتك جاي تكب بلاها على ابني». وبالفعل كان أبي يعرف تربيته جيداً، فهو يعرف تمام المعرفة أنّ حسام لم ولن يصعب عليه يوماً الخروج من أي مأزق، فهو «حربوق» و«حلو اللسان» استطاع دوماً كسب ودّ الناس من حوله. صحيح أنّه لم يستطِع كسب ثقتهم فتراهم ينفضّون من حوله سريعاً، لكنه بقي مع ذلك يدخل في متاهات ويخرج منها كأن شيئاً لم يكن. كنت أرى أبي قبل ذلك رجلاً لا يقول سوى الحق، أتباهى بأنّه لم يناصر يوماً حزباً ما أو يصفق لزعيم من الزعماء. بتُّ أراه بصورة مختلفة، عندما خرج أبو حسان مطأطئاً رأسه. أكمل أبي طعامه وكأن شيئاً لم يكن. أعرف أنّه كان يكابر، يمتصّ غضباً لم يقوَ عليه، ويحبس دمعة ظهرت واضحة في عينيه السوداوين. لكن ما لم أفهمه هو عدم مواجهته لحسام، لم يسأله إن كان الفاعل! إن كان له علاقة بالموضوع أو لِم اتّهمه أبو حسان بمثل تلك التهمة؟ لا، هو لا يثق به!
كنتُ قبل يوم من ذلك الموقف قد عمدت إلى دخول غرفة حسام. انتهزت فرصة وجوده في العمل وانشغال أمي بتحضير الإفطار، كنت أعلم أنّي سأجد شيئاً ما يثبت دناءة أخي. بعدما انتشر الخبر في القرية وبادر حسام إلى القول لأمي أنّ سليم هو الفاعل وليس هو! فتحت خزانته وأخرجت علبة أحذية أعرف أنّه يوضّب بداخلها أغراضه الصغيرة الحجم وأوراقه الخاصة. رميت الأغراض على السرير فوجدت علبة حمراء اللون، أعرفها جيداً فهي كانت يوماً هدية لي من سليم. كان بداخلها سلسلة ذهبية بقيت في عنقي منذ أعطاني إياها حتى ذاك اليوم الذي أتى فيه أبو حسان إلى منزلنا. يبدو أنّ حسام أخذها ليضع بداخلها أغراضاً صغيرة خوفاً من أن تضيع. لكني وجدت داخلها أشياء غريبة، قصاصة شعر شقراء اللون وريشة حمامة أو عصفور آخر لا أدري ما هو، وجزءاً من «كُستك» ساعة ذهبية وكراكيب أخرى! يبدو أن أخي يجيد الاحتفاظ بأغراضه أكثر مما يُحسن الحفاظ على من حوله. ولا أدري إن سبق له أن بعثر أغراض إحداهن كما فعل مع سارة! وجدت ضالتي أخيراً، بطاقة ذاكرة بسعة 8 غيغا. أخذتها بعد أن أعدت كل شيء إلى مكانه، أمسكت هاتفي وأدخلت البطاقة فيه. لم أرد أكثر من صورة أو محادثة، لكن أّخي كان سخياً معي في ذلك اليوم. وجدت بدل الصورة صوراً ومحادثات التُقطت كصور «سكرين شوت». تسرّب الحماس إليّ وانتظرت أول فرصة تسنح لي كي أدسّ الصور في هاتف أمي، وفعلتُ.
رأيتها تشهق، تمسك بكلتا يديها هاتفها الذي لا تجيد استخدامه حتى اليوم. رأيت الدهشة والخوف في عينيها، رأيتها تضع يداً على ظهرها وكأنّ الألم باغتها فجأة، حاولت الجلوس بصعوبة ثم «غرقت» في هاتفها. انتظرتُ أخي حتى يعود من خدمته. ولما عاد احتضنته أمي كعادتها وقبلته تلك القبل المتتالية على خده التي يمكن سماعها على بعد أمتار. أثارت ارتيابي بذلك العطف! فأنا أردت أن تعرف الحقيقة علّها تفعل شيئاً! علّها توبّخه أو تفضحه! لكنها أثارت الشك في نفسي وجعلتني أعتقد أنّها لم ترَ شيئاً وأن صدمتها تلك لم تكن بسبب الصور التي دسستُها في هاتفها. انتظرتها حتى خرجت من المطبخ فأمسكت بهاتفها لأتفاجأ بأنّها مسحت كل الصور والمحادثات!
حتى أمي خانتني! لم يتبقَّ أمامي سوى حسن، فهو يفهم كل ما يدور حوله. وإن كان لا يتكلم، فلينتفض! فليصرخ كما يفعل دائماً. لمّا رأيت أبا حسان يغادر منزلنا، تسللت خلف حسن، لحقت به حيث يجلس دائماً على سطح منزلنا. كان منذ صغره مولعاً بتربية طيور الحمام، بنى لها بيتاً تحول إلى بيت له أيضاً لكثرة الوقت الذي يمضيه هناك. عندما رأيته يجلس على كرسي قديم في زاوية من زوايا السطح، توجهت إليه وقلت له بعصبية وبحزن شديد: «عجبك يلي عملوا أهلك وخيك بسارة!؟» ويا ليتني لم أقل شيئاً. يا ليتني بقيت صامتة، بدأ حسن يصرخ بهمهمات غير مفهومة سمعتها الحارة بأكملها. لكني لم أخف، صرختُ به بصوت مظلوم يبحث عمّن ينتصر له: «لازم تعمل شي». فما كان منه إلا أن سحب المنديل الذي كنت أضعه بإهمال على رأسي بقوة، لم أفهم لِمَ فعل ذلك؟ نظر في عينيّ مطولاً وكأنه يبحث فيهما عن شيء ما أو أنّه أراد أن ينطق وما استطاع، ثم نظر إلى رقبتي وشدّ السلسة التي كنت أرتديها، تلك التي أهداني إياها سليم. انقطعت السلسة ووقعت على الأرض، انحنيت بسرعة وأمسكت بها وهربت راكضة إلى الأسفل.
التقيت بهم على الدرج يُسرعون ليعرفوا حقيقة ما يجري. مررتُ بهم، مررتُ بأسئلتهم، ولم أقف برهة. فحتى أنا لم أكن أدافع عن شرف سارة ولا أثور ضد حقارة أخي، جلّ ما كنت أريده ألّا تقع التهمة على سليم، لأني أردته حباً وأردته زوجاً ولم يردني سوى ذكرى في جيد فتاة حمقاء!

* لبنان ــ من المجموعة القصصية «دافنشي لا يجيد الكتابة» (إصدار دار المجمّع الإبداعي، 2020)

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا