أثار انتشار الكتابة في بادية بين الشام والجزيرة العربية قبيل الميلاد وبعده دهشة الباحثين. فلدينا عشرات الألوف من النقوش التي نُقشت على الحجر بين شمال السعودية وشمال شرق الأردن وجنوب سوريا. وقد كتبها بدو من الجنسين، ووضعوا تواقعيهم عليها. وبناء على هذا الكمّ الهائل من النقوش، فقد افترض الباحثون أن نسبة كبيرة من بداة هذه الصحارى كانوا يعرفون القراءة والكتابة. بل لعله يمكن القول، ربما، بأنه كانت هناك مجتمعات بدوية قارئة كاتبة بشكل كامل. أي مجتمعات مُحيت أميتُها قبل ألفي سنة أو أكثر من محو الأمية في العصور الحديثة. والسؤال هو: كيف حصل ذلك؟ كيف تمكنت مجتمعات بدوية تقضي جزءاً كبيراً من عامها في الترحال من تعميم الكتابة إلى هذا الحدّ من دون وجود دول وسلطات وقصور ومدارس أو أرشيفات أو غير ذلك؟ كيف استطاع هؤلاء البداة محو أميتهم في غياب كل هذا؟ والأهم ما هي الضرورة التي دفعتهم إلى هذا؟


الوحيد الذي حاول الإجابة عن هذا السؤال، أو الأسئلة، بشمول هو مايكل ماكدونالد أبرز الباحثين الأحياء في لغات شمال الجزيرة العربية في أيامنا هذه. بذا يعود الفضل إليه في تظهير هذه المسألة وبلورتها. وهو يقسم المجتمعات القديمة في صلتها بالكتابة إلى قسمين: مجتمع كتابي، حتى لو كانت غالبية أفراده غير قادرة على القراءة والكتابة، ومجتمع غير كتابي، حتى لو كان جزء معتبَر من أفراده قادراً على القراءة والكتابة، لأن المهمات الأساسية في هذا المجتمع تنجزها الذاكرة والكلمة الشفاهية.
وهو يعتقد أن مجتمعات البادية العربية - السورية كانوا من النوع الثاني. فهؤلاء لم تكن الكتابة والقراءة جوهرية عندهم ولا ضرورية للقيام بأمور الحياة الرئيسية. بل كانت نوعاً من اللهو وأداة لتزجية الفراغ: «النقوش الصفائية تكاد تكون كلها مخربشات، وكتّابها يتعاملون مع الكتابة كلعبة لا كشكل جدي من أشكال التواصل. هذه النقوش كانت، وإلى حدّ كبير، نتاج ساعات الفراغ القسري في الأوقات التي كان فيها كاتبوها». يضيف: «إذن، فلم تكن هناك ضرورة اجتماعية ملحّة دفعت البداة لتعلم الكتابة. كان الضجر والزمن البطيء الثقيل هو الذي دفع لتعلمها. بذا فالنقوش الناتجة عن هذا الوضع لم تكن موجهة إلى مستمع محدد أو مشاهد غير الكاتب نفسه. إنها مصنوعة من أجل متعته الشخصية، لا من أجل التواصل، وإرسال الرسائل. هناك وقت فائض عند الرعاة، وقد عثروا على لعبة اسمها الكتابة تستطيع أن تحقق لهم الغرض: تزجية الوقت. ويمكن للمرء أن يربط هذا التقدير بفكرة القرن التاسع عشر عن الصحراء العربية ذات الزمن السرمدي The timeless desert الذي يمر بطيئاً وثقيلاً. فهذا الزمن هو الذي ولّد الكتابة التي لا نفع لها سوى حرق الوقت. لقد نجح هؤلاء البداة إذن في تحويل الكتابة، هذا الاختراع البشري العظيم، إلى لعبة فردية للتسلية وللتغلب على الضجر لا غير.
أكثر من ذلك، يبدو أن الكتابة لم تساعد البدو الرعاة في شيء، بل أضرتهم في الحقيقة حسب ماكدونالد. فبدلاً من أن تساعدهم على الاندماج بالمجتمعات المستقرة: فإنها في الواقع فصلتهم أكثر عن الحضريين».
من ناحيتي، أعتقد أن فرضية ماكدونالد خاطئة، وأنها نهضت على سوء فهم لكتلة مركزية من النقوش الصفائية، التي تمثل بدورها الكتلة الأكبر من نقوش البادية العربية- السورية. بل إن هذه الفرضية تلعب الآن، في ظني، دوراً معيقاً في محاولتنا لفهم هذه النقوش. فإذا كانت هذه النقوش لا تطمح للتواصل، ولا تحمل أي رسائل، فهي عملياً بلا معنى.

المعنى المؤكد
والحال، أن الكتلة المركزية لهذه النقوش، بل غالبيتها الساحقة، تحمل رسائل محددة. رسائل موجهة إلى الأهل والأقارب وإلى أعضاء القبائل التي تجوب الصحارى والحرات والفلوات. أي أنها كُتبت بهدف التواصل. وهذا يفسر اللعنات التي تنتهي بها كتلة كبيرة جداً من هذه النقوش، والتي تطالب الآلهة بعقاب من يخرّبها أو يحرفها أو يقلب الحجارة التي كتبت عليها، أو يزحزحها من مكانها. ولو كانت هذه النقوش مجرّد لعب فردي لتزجية الوقت لما كان كاتبوها بحاجة إلى تدخل الآلهة لحمايتها. فنتاج اللعب ليس أمراً خطيراً تجب صيانته. لكن الحقيقة أنهم طلبوا تدخّل الآلهة لردع المخربين لأنها رسائل قد يؤدي محوها، أو تحريفها، إلى تضييع صاحبها للصلة مع أهله، وهو ما قد يؤدي إلى موته، أو موتهم، في الصحارى الشاسعة المخيفة.
ولأن الأمر يتعلق برسائل مؤكدة، لهذا تتكرر في هذه النقوش مئات المرات جمل مثل «ووجد سفر فلان، فعمل كذا» أو «ووجد أثر فلان، فعمل كذا» أو «ووجد توقيع فلان فعمل كذا». فالكاتب في كل هذه النقوش كان يبحث عن أثر أقربائه وأشياعه، عن نقوشهم في الحرات وأعماق الصحارى كي ينتجع بالقرب منهم، أو كي ينتجع على انتجاعهم، أو كي يقتفي أثرهم. وحين كتب نقشه، فقد كان يردّ على الرسائل التي حملتها هذه النقوش. أي كي يخبرهم أنه قرأها، وأنه عمل ما عمله انطلاقاً من فهمه لهذه الرسائل. وهو لم يعثر على هذه النقوش بالمصادفة المحض، بل بحث عنها لأنه كان يعرف أن أهله وأشياعه سيتصلون به عبر النقوش والإشارات في مكان ما من هذه المنطقة.
ونحن نعلم أن رحلة النجعة التي تبدأ مع بدء نزول المطر في الخريف هي أهم حدث اقتصادي- اجتماعي في حياة هؤلاء البدو. فهي تستغرق ما يقارب ثمانية أشهر، وتشارك فيها الكتلة المركزية من القوة العاملة في مجتمع البداة هؤلاء. إذ هي تبدأ من أواخر أيلول وتنتهي بين نهاية أيار ومنتصف حزيران. وهي عملياً رحلة حياتهم الاقتصادية. لهذا فكتلة هائلة من النقوش تتركّز حول هذه الرحلة ومشاغلها.

التوقيت في النقوش الصفائية
يحدّد عدد كبير جداً من النقوش الصفائية السنة التي كتب فيها الكاتب نقشه. وتضاف هذه السنة، في غالب الأحيان، إلى حدث محلي، يفترض أن يعرفه جيداً أهل القبيلة، أو أهل الفخذ القبلي المعني، على وجه التحديد. تقول بعض النقوش مثلاً: «سنة قُتل فلان» أو «سنة حفر فلان بئراً»، أو «سنة بنى فلان»، أو «سنة أقام فلان سدّاً»، إلخ. وتحديد السنة عامل حاسم بالنسبة إلى كاتب النقش ولأهله ولرسالته. فهو يريد لأهله وجماعته أن يفرقوا بين نقشه هذا وبين أي نقوش كان قد كتبها في السنوات الماضية. ذلك أن رحلة النجعة تحصل سنة بعد سنة. وفي كل سنة تكتب النقوش. لذا فعلى الكاتب أن يوضح لأهله وأقاربه في أي سنة كتب نقشه الأخير. عليه أن يقول لهم إن النقش الذي عثروا عليه، مكتوب في هذه السنة بدليل الحدث المحلي الذي يذكره. بالتالي، فهم حين يجدون نقشاً مرتبطاً بحدث من الأعوام السابقة فلن يهتموا به. ما يهمهم هو نقش السنة الحالية، سنة النجعة الراهنة. فهو الذي سيحدد لهم الموقع التقريبي لقريبهم أو ابن عشيرتهم. وهو ما يجعلهم قادرين على البحث عنه في منطقة هذا النقش كي يتواصلوا معه. بذا فربط النقش بحدث معروف أمر حاسم، ولا مجال للمزاح فيه. إنه مسألة حياة أو موت لكاتب النقش ولأهله أيضاً ربما.

نظام العلامات في الصحارى
عالم الصحارى والحرات في الجزيرة العربية وبلاد الشام عالم شاسع ومخيف. وعبوره ليس مسألة هينة أبداً. فالتضاريس قد تتشابه على مدى مئات الكيلومترات. لذا فعبور هذا العالم بأمان يوجب تقطيعه بالعلامات الموجودة فيه: جبيل أسود صغير يمثل علامة. بناء صغير قديم يمثل علامة. حجر وحيد في سهل علامة أيضاً. شجرة كبيرة علامة. ولدينا لائحة طويلة بأسماء العلامات الحجرية في المصادر العربية لا يسع المجال هنا لذكرها. والتعرف إلى هذه العلامات، وتسجيلها في الرأس، عند قطع الصحارى مسألة حياة أو موت. ومن أجل ذلك، وجد الأدلاء في الرحلات التجارية وفي الغزوات العسكرية. فالأدلاء هم خبراء العلامات الصحراوية. كل واحد منهم يحمل في رأسه خارطة لتوزيع هذه العلامات في المشهد الذي يعرفه.
وجد الأدلاء في الرحلات التجارية وفي الغزوات العسكرية، فهم خبراء العلامات الصحراوية


على أن إنشاء علامات مصنوعة في المناطق التي ليس بها علامات، هو الأكثر أهمية في رحلة الانتجاع. وهذه العلامات تعني صناعة خارطة جديدة للمشهد. ذلك أن المنتجِع ينتهي في النهاية إلى أن يكون وحيداً. قد يسير مع رفقة ما في البدء، لكنه عند نقطة معينة ينفصل عنهم. فكل واحد يجب أن يبحث عن العشب في منطقة خاصة تكفي ماشيته. وحين ينقطع البدوي في رحلة نجوعه، فقد يدوم انقطاعه شهرين أو ثلاثة أشهر، وربما أكثر. من أجل ذلك، فهو ملزم أن يضع علامات لكي لا يضيع في تضاريسها المتشابهة، ولكي يتمكن من العودة إلى المكمن، أو «الوعل»، أي مكان التخييم خاصته، في كل مرة يذهب فيها بعيداً بماشيته كي يرعاها. فضياعه قد يعني موته، أو موت بهائمه. كما أنه ملزم أن يصنع علامات أخرى كي يستدل بها إليه أهله وعشيرته حين يريدون الوصول إليه. ذلك أن المطر قد يتأخر، فيحتاج إلى أن يرسلوا له ما يقيت به ماشيته. لذا فالطريق بينه وبينهم يجب أن يكون معلّماً.

الكتابة: علامة العلامات
ثم جاءت الكتابة. لا نعرف متى. لكنها جاءت. ومنذ لحظة وصولها، تغيّر نظام العلامات جذرياً في عالم الصحارى والحرات. صارت الحروف المكتوبة هي العلامة الكبرى والمركزية في نظام علامات الصحراء عموماً، ونظام علامات رحلة الانتجاع خاصة. لقد أعادت الكتابة خلق نظام العلامات من جديد، ووضعت نفسها على قمته.
فمع وصول الكتابة، اكتشف الرعاة البدو أن لديهم علامة لا مثيل لها، تتفوق على جميع العلامات الأخرى. علامة بسيطة جداً يسهل فهمها، ولا مجال للخطأ بشأن ما تعنيه. فهي تحدد الأشياء بدقة كاملة. لا تستطيع الصوية أو المنارة النصوبة أن تقول بدقة: أنا زيد مناة، وأنا موجود في هذا المكان. هي تشير إلى هذا إشارة، لكنها لا تقوله بوضوح كافٍ. أما الحروف المنقوشة على الصخر، فتقول هذا بدقة مطلقة. العلامة الحجرية المنصوبة من أجل أن يراها الآخرون هي رسالة. لكنها رسالة غير واضحة تماماً، ويمكن الخطأ في تفسيرها. أما العلامة الكتابية، فرسالة صادقة لا تخطئ في قول ما تريد.
وحين اكتشف البداة كم هي العلامة الكتابية حاسمة في تجوالهم الذي لا يهدأ في الفيافي، تعلقوا بها باعتبارها مخلّصاً. لذا سرعان ما استوعبها الجميع، وتعلموها. الأب يعلّم الابن. والكبير يعلّم الصغير. لم يكن هناك مدارس، لكن كان هناك معلمون. وهكذا انتشرت الكتابة بين البدو في الصحارى انتشار النار في الهشيم. وهذا أدى إلى أن محيت أمية الجميع في مجتمعات البدو الرحل. ليس فقط المنتجعون منهم، بل ومن يمكنهم أن ينتجعوا، ومن ينتظرون عودة المنتجعين عند مصادر المياه الدائمة. ليس الرجال فقط، بل والنساء أيضاً. ليس البالغون، بل والأولاد ربما. مجتمع بكامله صار يقرأ ويكتب.
وبهذا خلقت الظاهرة غير المسبوقة في العصور القديمة: مجتمع بكامله من الرّحل صار مجتمعاً كتابياً يعرف كيف يقرأ ويكتب. لم يحصل مثل هذا في المدن والقرى. هذا المجتمع يقع خارج تصنيف ماكدونالد الثنائي. فهو مجتمع كتابي، لكنه لا ينتج نصوصاً أدبية، دينية، اقتصادية طويلة. غير أنه من ناحية ثانية مجتمع يستخدم هذا الطراز من الكتابة لإنجاز مهماته الضرورية وعلى رأسها نشاطه الاقتصادي المركزي، أي رحلة الانتجاع السنوية. بذا فالتواصل، ومعرفة السبل في الصحراء، لتنفيذ رحلة الانتجاع خاصة، هو الحاجة العميقة التي جعلت الكتابة تفوز في عالم هؤلاء البداة. حاجتهم إلى التواصل في رحلة الانتجاع أولاً، وفي غيرها ثانياً، هي التي جعلت الكتابة تنتصر في أعماق الصحارى والحرات. هي التي اخترعت مجتمعاً محيت أميته قبل أكثر من ألفي سنة. لقد انتصر البداة على الصحارى المخيفة والحرات بالكتابة، بالحرف المنقوش على الصخر. انتصروا بالنقوش القصيرة التي تتكون من سطرين إلى خمسة أسطر عموماً. إنها في الحقيقة كتابة تشبه الرسائل النصية القصيرة في زماننا: The SMS messages

* شاعر فلسطيني