تراكم صورة البداوة في الرواية العربية وتأصيلها سردياً، نسف عملياً تصورّات جورج لوكاتش عن مفهوم الرواية بوصفها «ملحمة البورجوازية». كأن الرواية العربية وجدت نسقاً أساسياً كان ضائعاً أو مهملاً في بنيتها الأصلية، بعيداً عن المؤثرات الغربية الوافدة. وإذا بالدراسات النقدية تهديها مصطلح «ديوان العرب» بدلاً من الشعر، نظراً إلى حضورها الواسع في المشهد الإبداعي الجديد. صحيح أن الشخصية البدوية لم تشكّل متناً أساسياً في المشهد الروائي العمومي، لكن وضعها تحت المجهر، في أعمالٍ كثيرة، أضاء متناً أساسياً في تشكلّات الوعي العربي، تلك التي اشتغل عليها علم الاجتماع أولاً، سواء في مقدمة ابن خلدون، أو دراسات علي الوردي عن طبائع المجتمع البدوي، وإن أتتا من موقعين مختلفين لمعنى البداوة.

في دراسته «القبيلة والنصّ: تحوّلات البداوة في الرواية العربية» (وزارة الثقافة ـــــ عمّان) يضيء ربيع محمود ربيع صورة الشخصية البدوية، وفقاً لحضورها في جغرافيات شبه الجزيرة العربية، ومصر، وبلاد الشام، بالاتكاء على أعمال غالب هلسا (زنوج وبدو وفلاحون)، ومحمود شقير (فرس العائلة)، وحمدي أبو جليل (الفاعل)، ويوسف المحيميد (فخاخ الرائحة)، وإشارات عابرة إلى أعمال عبد الرحمن منيف، وإبراهيم الكوني، وميرال الطحاوي، وآخرين. تتبدى أصالة هذه القراءات في فحصها للمعجم البدوي في ما يخصّ الغزو والترحال، وأحوال قطّاع الطرق، والصدام بين البدو والحضر، ثم التحوّل القسري للبدو بسبب بطش الدولة الحديثة للقبائل البدوية عن طريق التعليم وسيادة القانون. يرصد الناقد الأردني أسباب التحوّلات التي طرأت على البداوة، كما يرسم صورة مكتملة للشخصية البدوية قبل وبعد انخراطها في مكوّنات المجتمع الجديد، وكذلك الاشتباكات الزمنية بين البدوي والمكان، ومدى تأثير البداوة في تشكيل النصّ البدوي وبنائه، وإمكانية تأسيس رواية تعتمد البداوة كبنية نصيّة، بدلاً من المدينة التي تُعد بمثابة البنية شبه الثابتة للرواية، وصولاً إلى قدرة الرواية على أن تكون سجلاً لحياة القبيلة والمعبّر عن هويتها.
هكذا تأتي مفردة الغزو بوصفها ملمحاً مركزياً في شخصية البدوي، الشخصية التي ترى في الخضوع عاراً، ذلك أن الدولة الحديثة في نظر البدوي هي نظام إذلال وجباية، فالحقوق تحميها القوة والسيف، وتحرسها القبيلة لا الدولة. ففي رواية «الفاعل» لحمدي أبو جليل، سيستبعد محمد علي باشا البدو من الخدمة في جيشه خوفاً من ولائهم القديم للمماليك، ومن عدم استعدادهم للانتظام في جيش حديث يتوجه بولائه للدولة لا للقبيلة. وفي «فرس العائلة» لمحمود شقير، يرفض الشيخ محمد تسليم شباب العشيرة للضابط العثماني للمشاركة في قتال الإنكليز دفاعاً عن القدس. وستشهد حياة البدو تحولات واضحة مع استكمال الدولة أركانها، في القرن العشرين، ما يضطرهم إلى العمل في مهنٍ كانوا ـــــ حتى وقتٍ قريب ــــ يحتقرونها، لمصلحة السلب والنهب والاستحواذ لا الإنتاج. كما ستختل صورة الشجاعة والكرامة، بالدخول في تحالفات مع الدولة بهدف تحقيق مصالح القبيلة. كان البدو في «فرس العائلة» يتمسكون بالمثل القائل «لا تمرّ قدام حاكم ولا من ورا بغل»، إلا أنهم سيضطرون لاحقاً إلى العمل في بناء قصر المندوب السامي الإنكليزي في القدس، كما سيصاهرون الحضر، ويتخلّون عن فظاظتهم في العلاقة مع المرأة. لكن المدينة ستبقى متاهة وحالة ضياع، كما في «فخاخ الرائحة».
في محورٍ آخر يتناول ربيع محمود ربيع علاقة البدوي بالمكان الصحراوي، فهو لا يعترف بالحدود أو الأسوار، إنما ينتمي إلى الصحراء بمطلقها، وفي رأيٍ ثان، يحمل البدوي وطنه ـــ قبيلته ـــ أينما وجد الماء والمرعى. ذلك أن علاقته بالمكان غير محكومة بالعواطف والمشاعر بقدر ما هي محكومة بخيار الحياة أو الموت. ورغم اندماجه الراهن بالقيم المدينية، إلا أن البدوي ما زال يحتفظ بنظرته القديمة إلى المدينة باعتبارها كائناً مخنّثاً. ويميّز الباحث المفاصل الأساسية التي تحكم علاقة البدوي بالمكان، تبعاً لورودها في الروايات المذكورة، وفي مقدمها «البئر والنبع» لتحصيل الماء ليس للارتواء فحسب، إنما سترافقه طقوس الخصب وفرص الزواج وصولاً إلى الارتواء الجنسي، كما لدى غالب هلسا. وستقع مهيوبة في شغف الشيخ عبد الله في «فرس العائلة»: «منذ رأته عند بئر الماء، اندلعت في قلبها رغبة جامحة، وقالت لنفسها هذا هو». دلالة الماء لدى البدوي إذاً، تحيل إلى القوة والخصب من جهة، والخوف من الجفاف من جهةٍ أخرى، وقد يؤدي الصراع حول الماء إلى القتل. ويتساءل الناقد: هل يحق لنا إطلاق صفة الألفة على خيمة البدوي، وفقاً لتصورات غاستون باشلار للبيت؟ ذلك أن خيمة البدوي لا تتمتع بأدنى مواصفات البيت، فهي مجرد قطعة نسيج مستطيلة من شعر الماعز مرفوعة عن الأرض بأوتاد، لكن تقسيمها الداخلي على هيئة مضافة للرجال ومحرم للنساء ينطوي على نمط تفكير ذكوري يضع النساء في مقام أدنى بصرف النظر عن صفات النخوة والشهامة والكرم التي يتمتع بها البدوي في مضارب قبيلته، فهو قاطع طريق خارجها وصاحب مروءة داخلها، وهذا ما تشتغل عليه روايتا «الفاعل»، و«فخاخ الرائحة».
عبد الرحمن منيف حكم على المدن التي بنيت فوق رمال الصحراء بالذوبان

المفصل الثالث الذي يتحكّم في الشخصية البدوية هو الزمن الدائري الذي ينفي التتابع الخطي للزمن بإعادة إنتاج وتكرار الزمن نفسه لجهة العصبية القبلية، والتمثّل بقيم الأسلاف، إلا أن تطوّر الدولة الحديثة وقدرتها على ضرب القبائل، كسرا نزعة المغالبة عند البدو، ما أدى إلى تغيّر علاقة البدوي بالمكان وميله إلى الاستقرار عند تخوم المدن، وتالياً تغيّر إحساسه بمعنى الوطن، مثلما حدث للأجيال الجديدة من عشيرة العبد اللات في «فرس العائلة». وهذا ما سيؤدي إلى «انكسار الزمن الدوري»، من دون التخلي عن فكرة «تخنيث المدينة» من جهةٍ، والانخراط بأحلام اليقظة بخصوص المكان المفتقد، من مسربٍ آخر. وتكمن خصوصية الرواية التي ترصد البداوة، وفقاً لهذه الأطروحة، بالتمرّد على الشكل المديني للسرد، من دون أن تفقد حداثتها، إذ تتخذ رواية «الفاعل» شكل الخيمة لجهة الخشونة وعدم المراوغة في المكاشفة، بتحطيم مبدأ الإيهام بالواقعية، والترحال بين واقعة وأخرى، فيما سيعتني يوسف المحيميد في «فخاخ الرائحة» بفكرتي «الموت أو الاندماج» في ظل الدولة الحديثة والقبول بالتشوهات التي ستطال روح البداوة، و«طمس الهوية البدوية تحت راية الهوية الوطنية»، داعياً إلى «إنصاف الهوية البدوية المهمشة وتحريرها من جور الشعارات».
كان عبد الرحمن منيف في روايته الملحمية «مدن الملح» قد حكم على المدن التي بنيت فوق رمال الصحراء بالذوبان، منتصراً لنداء «متعب الهذال» إحدى أكثر الشخصيات البدوية رسوخاً في الذاكرة الروائية العربية، بانتقالها من الهامش إلى المتن.