يواجه لبنان حالياً أزمة اقتصادية ومالية حادّة أدّت إلى نقص في السلع والخدمات الأساسية، وارتفاع معدلات التضخم، وانخفاض سريع في قيمة العملة. فقدت الليرة اللبنانية أكثر من 95% من قيمتها مقابل الدولار الأميركي منذ تشرين الأول 2019، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار السلع المستوردة وجعل من الصعب على المواطنين العاديين تحمّل كلفة الضروريات الأساسية. انكمش اقتصاد لبنان بشكل كبير مع إغلاق العديد من الشركات وارتفاع معدلات البطالة. كما أدّت الأزمة المالية إلى نقص في العملات الأجنبية ولم يعد بإمكان المصارف والشركات تمويل الاستيراد وتسديد ثمن المواد الأساسية. كان للأزمة أيضاً تأثير خطير على القطاع المصرفي، إذ فرضت العديد من المصارف قيوداً صارمة على السحب، وضوابط على رأس المال لمنع المودعين من التهافت على سحب ودائعها، فصار صعباً على المواطنين العاديين الوصول إلى أموالهم الخاصة. حتى الآن، لم تتمكن الحكومة من معالجة الأزمة، إذ أعاق الجمود السياسي وانتشار الفساد، تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية اللازمة والحصول على المساعدات الدولية. كما أدّت الأزمة إلى احتجاجات واضطرابات اجتماعية واسعة النطاق، فدعا العديد من المواطنين إلى إنهاء النظام السياسي الحالي وتغيير الحكومة.
ما هي أسباب الأزمة؟
لعب عدم الاستقرار السياسي والصراعات الإقليمية، دوراً مهمّاً في تفاقم الأزمة المالية في لبنان، من خلال إعاقة النمو الاقتصادي، وتبديد الموارد، وصعوبة تنفيذ الإصلاحات والحصول على المساعدات الدولية. وأدّى الجمع بين الاعتماد المفرط على الديون، والافتقار إلى الإصلاحات الهيكلية وسوء الإدارة والفساد، إلى عاصفة كاملة خلّفت هذه الأزمة. فالبلاد تتمتع بنظام سياسي معقّد ومنقسم بشدة، ما أنتج افتقاراً إلى الحكم الفعّال، وأدّى إلى فشل تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية والسياسية. وتفاقم ذلك بسبب الصراعات الإقليمية، ولا سيما الحرب الأهلية المستمرّة في سوريا، إذ تدفقت أعداد كبيرة من اللاجئين السوريين، ما فرض ضغطاً كبيراً على موارد البلاد المحدودة وأضعف اقتصادها.


لسنوات، انخرطت الحكومة في الإنفاق المتهوّر والإفراط في الاقتراض، ما أدّى إلى دين عام كبير وغير مستدام. وفقاً للبنك الدولي، تجاوز الدين العام للبنان 150% من الناتج المحلي الإجمالي عام 2020. وانخرط المسؤولون الحكوميون والنخبة السياسية في اختلاس الأموال العامة. كما أدّى سوء الإدارة هذا، إلى الإخفاق في الاستثمار في البنية التحتية والخدمات الحيوية، مثل الكهرباء والمياه، ما زاد من إعاقة النمو الاقتصادي. كما أخفقت الحكومة في تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية والهيكلية الضرورية، مثل تقليص عجز الموازنة وزيادة الإيرادات الضريبية، ما أدى إلى زيادة الدين العام. علاوة على ذلك، كانت الدولة منخرطة أيضاً في مخطط بونزي إذ كانت تسدّد ديونها عن طريق طباعة النقود واقتراض المزيد من الأموال. أدّى ذلك إلى انخفاض سريع في قيمة العملة المحلية، وتضخّم مفرط، وتآكل مدخرات الناس. بالإضافة إلى ذلك، كان الفساد عقبة رئيسية أمام الاستثمار الأجنبي والمساعدات الدولية، إذ غالباً ما يتردّد المستثمرون والمانحون في ضخ الأموال في بلد معروف بالفساد وسوء الإدارة.

برأيك من المسؤول عن هذه الأزمة؟
إن المسؤولين الحكوميين والنخبة السياسية هم المسؤولون الأساسيّون عن الأزمة، إلا أنهم ليسوا وحدهم. فقد لعبت جهات فاعلة أخرى مثل البنك المركزي والمؤسّسات المالية والعوامل الدولية والضغوط الخارجية دوراً في الأزمة الحالية. كانت النخبة السياسية في البلاد في السلطة منذ عقود، وهي انخرطت في مجموعة من الممارسات الفاسدة وغير المسؤولة التي أدّت إلى الأزمة الاقتصادية والمالية الحالية. علاوة على ذلك، أدّى الافتقار إلى المساءلة والشفافية في النظام السياسي إلى استمرار هذه الممارسات من دون رادع، ما أدى إلى تفاقم الأزمة.
كما ساهم البنك المركزي، الذي يُفترض أنه مسؤول عن الحفاظ على الاستقرار النقدي وتنظيم القطاع المصرفي، في الأزمة من خلال الآتي: (1) الفشل في الحفاظ على الاستقرار النقدي، أي الفشل في السيطرة على التضخّم والحفاظ على قيمة الليرة اللبنانية. (2) الفشل في تنظيم القطاع المصرفي بشكل فعال، أدّى إلى انعدام الشفافية. (3) الفشل في معالجة قضايا القروض المتعثّرة. بالإضافة إلى ذلك، ساهمت المؤسّسات المالية في لبنان في الأزمة من خلال: الفشل في الحفاظ على ممارسات الإقراض السليمة مثل إقراض الحكومة والهيئات ذات الصلة بالحكومة من دون ضمانات كافية. وعدم الكشف عن المعلومات حول مركزها المالي الحقيقي، ما أدّى إلى انعدام الشفافية وتآكل ثقة الجمهور في النظام المصرفي.
أيضاً تعرّض لبنان لعقوبات دولية مختلفة أعاقت وصوله إلى الأسواق الدولية بهدف التمويل. فوضعت دول مثل الولايات المتحدة والسعودية عقوبات اقتصادية وضغوطاً سياسية منعت البلد من الحصول على المساعدة والدعم الدوليين. أضف إلى ذلك، أن موقع لبنان في الشرق الأوسط جعله عرضة للنزاعات الإقليمية والتوترات بين الدول المجاورة، ما زاد من إضعاف اقتصاد البلاد وزاد من تفاقم الأزمة المالية.

ما مدى تأثير الأزمة على القطاع المصرفي؟
كان للأزمة المالية في لبنان تأثير شديد على القطاع المصرفي في البلاد، تمثّلت على شكل التهافت المصرفي وسحب الودائع. مصطلح التهافت المصرفي (Bank runs)، يعني أن عدداً كبيراً من عملاء البنك يقومون بسحب ودائعهم في وقت واحد انطلاقاً من وجود مخاوف بشأن ملاءة البنك. يمكن أن يؤدي ذلك إلى أزمة سيولة، إذ قد لا يكون لدى البنك ما يكفي من النقود لتلبية الطلب على عمليات السحب. في لبنان، كان سبب التهافت المصرفي هو انعدام الثقة في النظام المصرفي والمخاوف بشأن ملاءة المصارف، فضلاً عن أن الانخفاض السريع في قيمة العملة المحلية والتضخم المرتفع أديا إلى انخفاض قيمة الودائع المصرفية وتآكل المدّخرات.
ونتيجة لذلك، فرضت العديد من المصارف حدود سحب صارمة وضوابط على رأس المال، لمنع التدفق السريع للعملة الأجنبية، والحفاظ على الاحتياطيات. يشير مصطلح ضوابط رأس المال (Capital Control) إلى الإجراءات التي تتّخذها الحكومة أو المؤسّسات المالية للحدّ من حركة رأس المال داخل وخارج الدولة، من أجل استقرار الاقتصاد ومنع أزمة النقد. هذه الإجراءات أعاقت وصول المواطنين العاديين إلى أموالهم الخاصة، كما صعّبت على الشركات دفع ثمن المواد الخام والمدخلات الأخرى.
وإذا استمر فقدان الثقة في النظام المصرفي، فقد يؤدّي ذلك إلى انهيار النظام، فتصبح المصارف غير قادرة على تلبية الطلب على عمليات السحب وتضطر إلى الإغلاق. قد يكون لذلك عواقب اقتصادية وخيمة تعيق وصول الشركات إلى الائتمان والأفراد إلى مدخراتهم.

هل هناك إمكانية لاسترداد الودائع المصرفية؟
يمكن لعملاء المصارف المتعثّرة استرداد ودائعهم عبر الوسائل القانونية، مثل رفع دعوى لدى البنك المركزي أو من خلال المحاكم. ومع ذلك، قد تستغرق العملية القانونية وقتاً طويلاً، وقد لا تنجح دائماً. والمعروف في لبنان أن النظام القانوني بطيء وفاسد، ما قد يؤثّر على نتيجة العملية القانونية. أو يمكنهم استرداد ودائعهم عن طريق برنامج التعويض الحكومي التي توضع عادة لتعويض المودعين عن خسائرهم في حالة تعثّر البنك عن السداد. ومع ذلك، تواجه الحكومة اللبنانية صعوبات مالية، وقد لا تملك الموارد الكافية لتعويض المودعين. من المهم ملاحظة أن فرص نجاح أي من هذه الوسائل، تعتمد على ملاءة المصارف وقدرة الحكومة على السداد. في بلد مثل لبنان، تنعدم فيه الشفافية والحوكمة الفعالة ولديه مستوى مرتفع من الدين العام واقتصاد متعثّر، قد تكون فرص استرداد الودائع منخفضة.

ما هي الحلول الممكنة للأزمة؟
تشمل الحلول الممكنة للأزمة المالية في لبنان إعادة هيكلة الديون وتنفيذ تدابير التقشف، تنفيذ الإصلاحات الهيكلية والمؤسسية، الحصول على الدعم والمساعدات الدولية وإشراك القطاع الخاص والمستثمرين الأجانب.
- إعادة هيكلة الديون وإجراءات التقشف: التفاوض مع الدائنين لإعادة هيكلة ديون الدولة وتمديد آجال استحقاقها. وهذا من شأنه أن يساعد في تخفيف عبء الدين عن اقتصاد البلاد ومنح الحكومة مزيداً من الوقت لتنفيذ الإصلاحات الاقتصادية والهيكلية اللازمة. ولتقليص عجز الموازنة وتحسين الوضع المالي للدولة، ستحتاج الحكومة إلى تنفيذ تدابير تقشفية، مثل خفض الإنفاق العام، وزيادة الإيرادات الضريبية، وإصلاح الإدارات والمؤسّسات العامة. وهذا من شأنه أن يساعد في وضع ديون البلاد على مسار أكثر استدامة وخلق بيئة أكثر ملاءمة للنمو الاقتصادي.
- تنفيذ الإصلاحات الهيكلية والمؤسّسية: المقصود بالإصلاحات الهيكلية، تنفيذ سياسات لتحسين الكفاءة والقدرة التنافسية للاقتصاد. قد يشمل ذلك تخفيف القيود عن سوق العمل، وخصخصة المؤسّسات العامة والمملوكة للدولة. ستساعد هذه الإصلاحات في خلق بيئة أكثر ملاءمة للنمو الاقتصادي وجذب الاستثمار الأجنبي. أما بالنسبة إلى الإصلاحات المؤسساتية، فهي تتعلق بتنفيذ إجراءات لتحسين الشفافية والمساءلة في الإدارات والمؤسّسات العامة، فضلاً عن مكافحة الفساد. يمكن أن يشمل ذلك تعزيز قوانين ومؤسّسات مكافحة الفساد، وزيادة الشفافية في الإنفاق الحكومي. ستساعد هذه الإصلاحات في استعادة ثقة المواطنين في المؤسسات الحكومية وتحسين فعالية السياسات العمومية.
إذا استمر فقدان الثقة بالنظام المصرفي فقد يؤدّي ذلك إلى انهياره وتضطر المصارف إلى الإغلاق


- الدعم والمساعدات الدولية: إن الحصول على مساعدة مالية من المنظمات الدولية مثل صندوق النقد الدولي (IMF) والبنك الدولي والدول المانحة الأخرى، من شأنه أن يساعد على استقرار اقتصاد البلاد وتمويل الإصلاحات الاقتصادية والهيكلية. يشمل هذا الدعم دولاً مثل الولايات المتحدة وأوروبا ودول الخليج، وقد يأتي على شكل زيادة في الاستثمار والتبادل التجاري. من المهم ملاحظة أن الحصول على المساعدة والدعم الدوليين يتطلب من لبنان تلبية شروط معينة، مثل تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية والهيكلية ومكافحة الفساد. كما أن عدم الاستقرار السياسي في البلاد والصراعات الإقليمية قد تجعل من الصعب الحصول على المساعدة والدعم الدوليين.
- إشراك القطاع الخاص والمستثمرين الأجانب: يساعد تشجيع استثمارات القطاع الخاص في اقتصاد البلاد على خلق فرص عمل وتعزيز النمو الاقتصادي. يمكن أن يشمل ذلك تدابير مثل الحوافز الضريبية للشركات وخلق بيئة أعمال أكثر ملاءمة. ويساعد جذب الاستثمار الأجنبي إلى اقتصاد الدولة، على خلق فرص العمل وتعزيز النمو الاقتصادي. يمكن أن يشمل ذلك تدابير مثل تحرير الاقتصاد، وتحسين البنية التحتية للبلاد، وخلق بيئة أعمال أكثر ملاءمة. من المهم ملاحظة أن القطاع الخاص والمستثمرين الأجانب من المحتمل أن يكونوا مترددين في الاستثمار في البلاد بسبب الأزمة المالية وعدم الاستقرار السياسي وانعدام الشفافية في البلاد.
في الختام، تعتبر الأزمة المالية في لبنان حادّة ولها تأثير كبير على البلد وشعبه، إذ أدّت إلى تباطؤ اقتصادي حادّ، وارتفاع معدلات البطالة، وارتفاع التضخم، وانخفاض مستوى المعيشة، وانعدام الأمن الغذائي والحاجات الأساسية. كذلك، كان للأزمة تأثير كبير على بيئة الأعمال، وزادت من تآكل ثقة الجمهور بالنظام المصرفي. هنا تبرز الحاجة إلى التحرّك والتغيير الفوريين لمعالجة الأزمة ويشمل ذلك الشفافية والمساءلة، والإصلاحات الاقتصادية والهيكلية، وتدابير مكافحة الفساد، والمساعدة والدعم الدوليين، وإشراك القطاع الخاص وجذب الاستثمار الأجنبي، وتوفير الاستقرار السياسي. لذا، يصبح ضرورياً أن تتخذ الحكومة اللبنانية والمؤسّسات المالية هذه الخطوات لاستعادة الثقة بالنظام المصرفي واستقرار الاقتصاد ومنع الأزمات المالية في المستقبل. ومن المهم معرفة أن هذه الحلول تتطلب إرادة سياسية قوية، وحكومة شفافة وفعالة، ونظام قانوني قوي لإنفاذها. بالإضافة إلى ذلك، من المحتمل أن تأتي هذه الحلول بكلفة على شكل انخفاض الإنفاق العام وزيادة الضرائب، والتي قد تواجه مقاومة من السكان. قد تستغرق هذه الحلول وقتاً للتنفيذ، وقد لا تتوفر الإغاثة الفورية اللازمة لذلك.