هدف الاستراتيجية الاقتصادية الوحدوية إعادة إحياء مشروع السوق العربية المشتركة. لكن العديد من الاقتصاديين لا يعتبرون أن السوق الأوسع أو الاقتصاد القومي الأكبر حجماً أفضل للقُطر الواحد من الاقتصاد القطري بمفرده. وقد يصحّ القول إن الواقع الحالي للاقتصادات العربية يؤدّي إلى تدمير الاقتصاد القومي إذا تمّت الوحدة اليوم من دون تغيير في البنى السياسية والاقتصادية، إلا أن التحفّظ على هذه الإشكالية بأنها وجهة نظر تفرض على العالم ألا يتغيّر. إذ إن تحقيق الوحدة أو حتى السعي إليها، ينطوي على ديناميكية تفرض مراجعة البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأخلاقية، بينما الواقع الفئوي والاقتصاد الريعي والفساد المتفشّي في جميع أقطار الأمة، يتنافى مع التكامل أو حتى مع الشروع بمشاريع مشتركة. لذا، فإن سلوك درب الوحدة هو بمثابة ثورة سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وحتى أخلاقية.وللإنصاف، حصل بالفعل نمط من التعاون، يتمثّل في حركة رؤوس الأموال العربية التي أصبحت تنتقل بسهولة أكبر بين الأقطار العربية، في مقابل استمرار القيود على حركة العمالة. الانفتاح على الاستثمار في معظم الدول أدىّ إلى تزايد في الحركة الاستثمارية العربية بين الأقطار العربية وإن كانت نسبتها صغيرة. وتقدّر الاستثمارات العربية من ودائع واستثمارات مباشرة خارج الوطن العربي بأكثر من 3 آلاف مليار دولار، بينما الاستثمارات العربية في الوطن العربي لم تتجاوز 500 مليار دولار معظمها في قطاع الطاقة. والاستثمارات العربية (خارج قطاع الطاقة) محصورة بقطاعات غير منتجة مثل العقارات (فنادق ومنتجعات ومراكز تجارية)، وهي لا تؤدي إلى التراكم الرأس المالي حتى لو أدّت إلى تفعيل قطاعات تابعة كقطاع الإسمنت وبعض العمالة. كما أن الطابع الأساسي لهذه الاستثمارات هو الريع الذي يبقي الاقتصاد القطري منكشفاً وتابعاً لمراكز قرار خارجية. فالمطلوب استثمارات في القطاعات الإنتاجية للسلع والخدمات لتحقيق قيم مضافة عبر اقتباس التكنولوجيات الحديثة وبخاصة لجهة الذكاء الاصطناعي. الاستثمار في قطاعات المعرفة العلمية توّلد القيمة المضافة. في القرن الثامن عشر والتاسع عشر كانت ملكية الأرض هي أساس ثروة دول الغرب، ثم أصبح رأس المال مصدر الثروة في القرن العشرين، أما في القرن الـ21 فإن مصدر الثروة هو المعرفة، وأساس المعرفة هو العلم.
أما الوجه الآخر لحركة رؤوس الأموال العربية، فهو الاستثمار في المؤسّسات المالية القائمة، ولا سيما الاستثمارات التي يكون مصدرها الريع النفطي. فالقطاع المالي العربي بشكل عام مولج بتدوير الفوائض المالية الناتجة من الريع النفطي نحو الغرب حتى الساعة، وربما نحو الشرق بعد التطوّرات الأخيرة في الصراع بين الكتلة الأوراسية والغرب الأطلسي. وهنا أيضاً شكوك في جدوى هذه الاستثمارات التي لا تسهم في تكوين رأس المال أو الزيادة في القيمة المضافة للاقتصاد العربي. اللافت أن الغرب الأطلسي لا يتردّد عن مصادرة أموال كل من يعتبره خصماً أو مناهضاً لسياساته وتوجّهاته. إذ إن كل قرش موظف غرباً، يُعدّ مفقوداً، وكل قرش عربي عائد من الغرب هو قرش مولود. الولايات المتحدة لم تتردّد في مصادرة الاحتياط النقدي الخارجي لأكبر دولة نووية في العالم، فماذا سيكون مصير الاستثمارات العربية في الأسواق الأميركية والغربية إذا اعتبرت الولايات المتحدة أن سياسات الدول العربية لا تتماهى مع سياسات الغرب الأطلسي؟ ليس ذلك فحسب، بل إن الغرب الأطلسي يحاول يائساً أن يُلغي دور السوق في تسعير برميل النفط ويفرض السقوف على أسعار النفط بينما قيمة الدولار في تراجع واضح ومستمرّ بسبب التشويهات في البنية الاقتصادية الأميركية. ولكن هذا حديث آخر نفصّله في بحث منفصل.
الاستراتيجية المطلوبة يجب أن تعطي الحلول لإبقاء معظم القيمة المضافة لاستخراج النفط والغاز في الوطن العربي


الغرب لن يسمح للاستثمارات العربية أن تحصل في المرافق الاستراتيجية الغربية حتى لو كان المستثمر العربي تابعاً في قراره الخارجي للغرب الأطلسي. لا يجب أن نغفل أن الحكومة البريطانية منعت تملّك الكويت 25% من شركة «بريتيش بتروليوم» في الثمانينيات، والكونغرس الأميركي منع الإمارات العربية من إدارة المرافئ الأميركية. وهناك حالات عدة تدلّ على أن الغرب منَعَ المستثمر العربي من الاستفادة من القطاعات الاستراتيجية أو تلك التي تأتي بقيمة مضافة مرتفعة. ولا داعي للإشارة أيضاً إلى وهم المردود بالدولار الأميركي بسبب وهن الاقتصاد الأميركي وتحوّله إلى اقتصاد رقمي افتراضي بعيداً من الاقتصاد العيني الحقيقي.
إن العمل التعاوني العربي ما زال محدود الآفاق بسبب بنية الاقتصاد العربي الذي يرتكز على توزيع الريع بدلاً من إنتاج الثروة، بالتالي يغيّب القرار السياسي لدفع المزيد من التعاون. لكن وللإنصاف، لا بدّ من الإقرار بأن الجهود المشتركة لم تتوقف لإقامة نوع من التجمع الاقتصادي بين الأقطار العربية. فكمية القرارات التي صدرت والتزايد في الأجهزة المؤسسة التي أنشئت للإشراف على التجمع الاقتصادي ما زالت مستمرة. لكن العبرة كانت وما زالت في التطبيق وترجمة العمل القانوني والمؤسّسي إلى واقع متجذّر في البنية الاقتصادية العربية. ومن المعالم المشرقة ما تّم إنجازه في دول مجلس التعاون العربي، وإن كانت اقتصادات هذه الدول مبنية على الريع المالي النفطي. كما لا بد من الإشارة إلى المؤسّسات التي أنشأت، كالصناديق الإنمائية العربية أي كل من الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي (1967) وصندوق النقد العربي (1976). أما الصناديق الوطنية فهي الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية (1961) وصندوق أبو ظبي للتنمية (1974)، وهذه الصناديق وإن كانت قُطْرية أساساً، فإن مداخلاتها الإنمائية تؤثر إيجاباً في شدّ أواصر التعاون العربي. يضاف إلى ذلك، ما يُعرف اليوم بالصناديق المالية السيادية التي أصبحت لاعباً أساسياً في الحقل الاستثماري العالمي. ولعلّ أهم ما يميّز هذه الصناديق هو رسملتها بصورة تسمح لها بالقيام بالعمل المنوط بها بصورة فاعلة. وهذه الصناديق تستطيع أن تساهم في رأس مال المشاريع العربية المشتركة كمشاريع الطاقة أو مشاريع بنيوية مشتركة كربط شبكات الكهرباء أو سكك الحديد بعضها ببعض. لكن التطبيع الذي قامت به بعض الدول صاحبة الصناديق السيادية قد تعطّل مشاريعها الاستثمارية في الأقطار العربية للاشتباه بدور ما للكيان الصهيوني العدو.
بعيداً من هذه الاعتبارات السياسية، يثار سؤال جوهري: هل تكون الاستراتيجية لتحقيق الوحدة الاقتصادية مبنية على النفط والغاز؟ حتى الآن، يمكن القول إن معظم القيمة المضافة لاستخراج النفط والغاز يتم تصديرها للخارج بشكل عام وللغرب بشكل خاص. وحتى التوجّه إلى الأسواق الشرقية لا يلغي حقيقة خسارة الفائض من القيمة المضافة عبر تصديرها. الاستراتيجية المطلوبة، يجب أن تعطي الحلول لإبقاء معظم القيمة المضافة لاستخراج النفط والغاز في الوطن العربي، باعتبار أن السوق الاقتصادية العربية لا تقل أهمية عن الأسواق الأخرى بحجمها المقدّر أن يبلغ نصف مليار إنسان بحلول منتصف القرن. هناك جدوى اقتصادية لبناء قطاعات تستوعب فائض النفط والغاز ولا سيما في الدول المصنّفة «فقيرة».
الشباب العربي هم الثروة الأساسية في هذا المشروع، ولا سيما في ظل الثورة التكنولوجية الرابعة التي ترتكز على اقتصاد المعرفة والعلوم.

* باحث وكاتب اقتصادي سياسي والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي وعضو الهيئة التأسيسية للمنتدى الاقتصادي والاجتماعي