الآن، وقد فات الأوان على التخفي وتقديم الحلول المجتزأة والتجميلية لواقع أضحى منكشفاً على المجهول ومنفتحاً على مصراعيه وسط غياب أية فرصة للتسوية خارج إطار عملية إصلاح هيكلية شاملة للنظام برمته، أصبح مجدياً، لا بل ضرورياً، تبيان وتوضيح بعض المفاهيم القانونية التي تحكم وتنظّم مرحلة الانهيارات المحدقة والإفلاسات المقبلة لا محال، انطلاقاً من تحديد المسؤوليات الناتجة عن سوء الإدارة والإهمال في إدارة المال العام والودائع المصرفية وصولاً إلى تدابير حماية وتحصيل ما يمكن حمايته وتحصيله. سيكون النقاش محصوراً في تبيان وتوضيح مسؤولية أعضاء مجلس إدارة المصرف المتوقّف عن الدفع، وجهازه التنفيذي.
نطاق المسؤولية
عند ثبوت توقّف أحد المصارف عن الدفع عملاً بأحكام القانون رقم 2/67 تاريخ 16/01/1967، أو عند وضع اليد عليه من المحكمة المصرفية الخاصة عملاً بأحكام القانون رقم 110 الصادر في 7/11/1991 والمعطوف على القانون رقم 28/67 تاريخ 9/5/1967، في حال تبيّن أنه لم يعد في وضع يمكنه من متابعة أعماله، يتم تنحية وعزل رئيس وأعضاء مجلس الإدارة بالإضافة إلى مفوضي المراقبة وسائر الأشخاص الذين لهم حق التوقيع، لمساءلتهم جميعاً وتحديد المسؤوليات.
في البدء يتم تعيين مدير موقّت، ثم لجنة إدارة خاصة تتولى صلاحيات مجلس الإدارة والجمعية العمومية العادية عند الاقتضاء، وهي تمثّل في الوقت نفسه، مجموعة دائني المصرف المعني، ويناط بها صلاحية اتخاذ التدابير التي تؤمّن مصالح أصحاب الحقوق. تمتدّ مهام اللجنة لستة أشهر كحدّ أقصى، وفي نهايتها يتم تحديد قدرة المصرف على استئناف عمله. عندها يُرفع الملف إلى المحكمة المختصّة بعد استطلاع رأي مصرف لبنان، ويُدعى المساهمون إلى جمعية عمومية لانتخاب مجلس إدارة جديد يتسلّم المهام. أما إذا تبين أن المصرف لا يستطيع متابعة أعماله، فيحال الملف إلى المحكمة من أجل تصفية المصرف بإشراف لجنة خاصة مهمتها إيجاد حلول تؤمّن مصالح أصحاب الحقوق بأفضل الوسائل السريعة ومنها بيع المصرف أو أسهمه وفروعه وأصوله.

أنجل بوليغان - المكسيك

وبموجب المادة 166 من قانون التجارة، فإنه بإمكان كل متضرّر، سواء أكان مساهماً أم شخصاً ثالثاً، ملاحقة المدير العام وأعضاء مجلس إدارة الشركات المساهمة (من ضمنها المصارف) عن أعمال الغشّ، وعن مخالفة القانون والنظام الأساسي للشركة. هذه المسؤولية تطاول جميع أعضاء مجلس الإدارة الذين كانوا يمارسون مهامهم بتاريخ ارتكاب المخالفة، فتكون استقالتهم من مهامهم في تاريخ لاحق لتاريخ اتخاذ القرار المشكوّ منه غير كافية لإعفائهم من المسؤولية.
كذلك، فإن المادة 167 من قانون التجارة، تمنح مساهمي الشركة المغفلة، إمكانية ملاحقة أعضاء مجلس الإدارة والمدير العام عن أخطائهم الإدارية؛ ورغم أن الفقرة الثانية من هذه المادة تشير إلى أنه بوجه عام، لا يكون أعضاء مجلس الإدارة والمدير العام، مسؤولين (مباشرةً) عن خطئهم الإداري تجاه الغير، إلا أنها تتضمن استثناء يتعلق بحالة إفلاس الشركة وظهور عجز في موجوداتها، وهذا ما يعطي المحكمة، بناءً على طلب وكيل التفليسة أو النيابة العامة أو من تلقاء نفسها، الحق في تحميل ديون الشركة لأعضاء مجلس الإدارة و/أو المدير العام أو كل شخص سواهم موكل بإدارة أعمال الشركة أو مراقبتها، بمن في ذلك مفوضو المراقبة. وللتملّص من هذه التبعة يقتضي على المتهم، البرهان أنه اعتنى بإدارة أعمال الشركة (المصرف) ومراقبتها اعتناء المهني الحريص الفاعل.
تتفاوت المسؤوليات على أعضاء مجلس الإدارة؛ هناك المشاركة في القرارات والتصويت الإيجابي أو التحفّظ و/أو الاعتراض وتدوينه في المحضر بصورة واضحة وصريحة. وتوزيع التبعات بشكل نهائي، مرتبط بحصّة كل مسؤول في الخطأ المرتكب (المادة 170 تجارة). وبحسب القرار الأساسي الصادر عن مصرف لبنان في 21/7/2008 رقم 9956 والقرارات الوسيطة الملازمة له (10405 تاريخ 30/3/2010 و10706 تاريخ 21/4/2011)، يجب التمييز بين أعضاء مجلس تنفيذيين، وأعضاء غير تنفيذيين، أو أعضاء مستقلّين، إذ أنيط ببعض الأعضاء وظائف إدارية أو استشارية أو عضوية إحدى اللجان كلجنتي التدقيق والمخاطر؛ لذا من الطبيعي، لا بل من البديهي تحميل من هو مشارك فعلاً في القرار والتدقيق وتقييم المخاطر.
هناك أعمال وتصرّفات مخالفة للقوانين والأنظمة قد يرتكبها، بصورة فردية أو بالاشتراك في ما بينهم، رئيس وأعضاء مجلس إدارة المصرف وآخرون لهم سلطات إدارية و/أو رقابية، مثل: استغلال المعلومات المميزة، إفشاء الأسرار، الابتزاز، صرف النفوذ، إساءة الأمانة، استثمار الوظيفة أو المركز، الاحتيال (حمل الغير بالمناورات الاحتيالية على تسليم مال منقول والاستيلاء عليه أو إساءة استعماله)، وهي كلها جرائم يعاقب عليها قانون العقوبات ومشمولة بالقانون 44 الصادر في 24/11/2015 (مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب) كحالات جرمية تؤدي إلى تبييض الأموال عن طريق إخفاء المصدر الحقيقي للأموال غير المشروعة أو إعطاء تبرير كاذب أو تحويل الأموال أو نقلها أو استبدالها أو توظيفها؛ تطبيق هذا القانون بما فيه من تحقيقات وإجراءات، مناط بهيئة التحقيق الخاصة التي تملك صلاحية اتخاذ القرار المناسب مثل التجميد الاحترازي الموقّت للحسابات و/أو للعمليات المشتبه فيها ووضع إشارة على القيود والحسابات والتوسع في التحقيق وإحالة الملف إلى النائب العام التمييزي وإلى رئيس الهيئة المصرفية العليا...

التدابير الاحترازية
مع مراعاة هذه الإجراءات، وصوناً لحقوق المودعين والدائنين، فقد نصّ كل من القانونين 2/67 و110/91 على تدابير احترازية واحتياطية في حالتي الإفلاس ووضع اليد، تطاول رئيس وأعضاء مجلس إدارة المصرف والأشخاص الذين لهم حق التوقيع عنه، ومفوضي المراقبة وكل من تولى إدارة أو مراقبة أعمال وحسابات المصرف أو التوقيع عنه خلال فترة الـ18 شهراً السابقة لتاريخ التوقف عن الدفع، أهمها:
- عزلهم وتنحيتهم فوراً واعتبار أموالهم المنقولة وغير المنقولة محجوزة حجزاً احتياطياً لضمان المسؤوليات التي قد تترتب عليهم، وذلك من دون الحاجة إلى إقامة دعوى إثبات الحجز، وعلى أن يبقى لهم حقّ طلب رفع الحجز أو حصره أمام المحكمة المختصّة.
- يُعتبرون متنازلين حكماً عن السريّة المصرفيّة، ما يوجب على جميع المصارف، تحت طائلة الملاحقة الجزائية، التصريح للمؤسسة الوطنية لضمان الودائع عن أموالهم المودعة لديها على أن تُعتبر هذه الأموال محجوزة حكماً تحت أيدي المسؤولين الذين عليهم أيضاً مسؤولية التصريح للمؤسسة عن ملكيتهم الحالية والسابقة لتاريخ التوقف عن الدفع تحت طائلة الحبس من 3 أشهر إلى 3 سنوات وغرامة مالية من مليون لغاية 10 ملايين ليرة.
- في حالة وضع اليد، تُبلِّغ المؤسسة الوطنية لضمان الودائع، القرار للمصارف وأمانات السجل التجاري والعقاري مع بيان بأسماء الأشخاص المسؤولين.

أسس المساءلة والملاحقة
بعد هذه التدابير، تطلب النيابة العامة أو المدير الموقّت أو لجنة الإدارة من المرجع القضائي المختصّ ملاحقة الأشخاص المسؤولين وإسناد مسؤوليتهم الجزائية إلى أحكام المادتين 671 و672 من قانون العقوبات اللتين تعاقبان بالحبس حتى 3 سنوات، وبالغرامة كلّ من تصرّف بمبلغ من المال أو بأشياء أخرى من المثليات سُلّمت إليه لعمل معين وهو يعلم أو كان يجب أن يعلم، أنه لا يمكنه إعادة مثلها ولم يبرئ ذمّته رغم الإنذار.
وفي حالة إعلان الإفلاس، فإنه عملاً بأحكام المادة 690 من قانون العقوبات معطوفة على المادة 693 منه، يُعتبر مفلساً مقصّراً ويعاقب بالحبس من شهر إلى سنة أعضاء مجلس إدارة الشركة المتوقفة عن الدفع، في حال أقدمت الشركة بعد التوقف عن الدفع، على إيفاء دائن إضراراً بكتلة الدائنين. هذا الأمر قد يكون ممكناً الاستناد إليه بوجه المصارف التي قد تعلن توقفها عن الدفع بالنسبة إلى التحاويل التي أجرتها إلى الخارج في نهاية عام 2019 في حال إدخال المرحلة ضمن الفترة المشبوهة.
ومن الأمور التي يمكن أيضاً الاستعانة بها في هذا الإطار، مسألة مكافحة ومعاقبة ضروب الغش الأخرى المرتكبة إضراراً بالدائنين وفقاً للمادة 699 من قانون العقوبات التي نصّت على تمثّل هذه الجرائم بالمدين الذي يقوم، بقصد إضاعة حقوق الدائنين أو منع التنفيذ على أمواله المنقولة أو الثابتة على عمليات احتيال وتواطؤ تهدف إلى إنقاص أمواله بأي شكل كان ولا سيما بكتم بعض أمواله أو تهريبها. ويلاحق المرتكب من قبل السلطات القضائية المختصة ويعاقب المحكوم بالحبس مع الأشغال الشاقة من شهر إلى 6 أشهر وبغرامة من 50 ألف ليرة إلى 600 ألف ليرة.
كذلك، يجدر التوقف عند جرم الاستغلال الشخصي للمعلومات المميزة (inside trading) المنصوص عنه في القانون 160 الصادر في 17/8/2011 والذي يُحظّر الاستغلال الشخصي للمعلومات المميزة في التعامل بالأسواق المالية. وقد اعتبر هذا القانون أن المعلومات المميزة هي التي تجتمع فيها خصائص متعلقة بمنتجات ماليّة معينة ليست بعد في متناول الجمهور وتكون دقيقة ومحدّدة بحيث تحدّد جملة معطيات أو أحداث وقعت أو توشك على الوقوع، ويكون من شأنها، في حال إفصاحها للجمهور، التأثير بشكل حسّي على أسعار منتجات مالية معينة أو أية منتجات مالية أخرى مرتبطة بها. وقد أعطى القانون مثالاً على ذلك: عدم تسديد السندات، خطط إعادة الشراء، تغييرات في حقوق حامل السندات، عمليات بيع عامة أو خاصة لسندات أو أسهم إضافية، تغييرات في تقدير درجة الملاءة... فضلاً عن عمليات كبيرة لتبادل الأسهم قبل تنفيذها.
يبقى متاحاً اللجوء إلى مفهوم «الدين البغيض» القاضي بتحميل الجهات المقرضة مسؤولية منح السلطة الرسمية قروضاً وهي تعلم وجهة وجدوى استعمالها


وحظّرت المادة الثانية من هذا القانون، على كل شخص بصفته رئيس أو عضو مجلس إدارة أو مدير أو مستخدم أو مدقّق حسابات أو مفوض مراقبة لدى مصدر منتجات مالية أو مساهماً في رأسماله أو مالكاً لحصص فيه، أن يستعمل أو أن يستغل معلومات مميزة غير معلنة بهدف الحصول على كسب محقق لحسابه أو لحساب الغير، بصورة مباشرة أو غير مباشرة. ولا يستثنى من حظر إفشاء المعلومات أو استعمالها إلا ما هو داخل في إطار الممارسة الاعتيادية للمهام والأعمال المناطة بهم.
أما لجهة النتائج والملاحقة، فينيط القانون رقم 160/2011، خلافاً لأي نص آخر ومباشرةً، بالهيئات والسلطات المعنية (أي مصرف لبنان وهيئة الأسواق المالية) تنظيم ومراقبة والإشراف على الأسواق المالية المنظمة بملاحقة مخالفي أحكام القانون أمام المحاكم المختصة كافة.
ويبقى متاحاً أيضاً اللجوء إلى مفهوم "الدين البغيض"، ومفاده تحميل الجهات المقرضة مسؤولية منح السلطة الرسمية القائمة، قروضاً وهي على علم يقين بالطابع غير القانوني و/أو غير المجدي لوجهة استعمالها. إلا أنه قد يكون من الصعب اللجوء إلى هذه نظرية في الحالة الحاضرة، نظراً إلى وجوب توافر ثلاثة شروط: (أ) إبرام القروض خلافاً لإرادة الشعب من قبل نظام ديكتاتوري تمّ تحويله إلى نظام ديمقراطي؛ (ب) استعمال الأموال خلافاً لمصلحة الشعب؛ (ج) علم المقرضين بوجهة استعمال القرض المخالفة للمصلحة العامة.
حبّذا لو أنه من المتاح اليوم التقدم بمشروع قانون يساوي بين حالة إفلاس المصارف وبين حالة إفلاس الوطن التي أصبحت واقعاً محتماً؛ لعلّنا نستطيع الاقتداء بالقانونين العتيدين رقم2/67 ورقم 110/91 لكي يصار إلى عزل المنظومة الحاكمة السياسية والمالية الحاضرة واعتبار جميع الأموال المنقولة وغير المنقولة العائدة إلى أعضائها وإلى كل من تولّى سلطة عامة أو مسؤولية تقريرية خلال الفترة المشبوهة وأيضاً إلى شركائهم، محجوزة حجزاً احتياطياً لضمان المسؤوليات التي قد تترتب عليهم.
أَوَليس الرئيس الأميركي تيودور روزفلت من قال منذ قرنٍ بعيد اكتشاف واقعةPonzi : «إن الأمور التي ستدمّر أميركا هي نظرية الإثراء السريع في الحياة؟"

* محام وأستاذ محاضر في قانون الضرائب ورئيس الجمعية اللبنانية لحقوق المكلّفين (ALDIC)