إسطنبول | تضمنت القرارات الأخيرة لرجب طيب أردوغان سلسلة من الإجراءات الخاصة بالاعتراف للأكراد ببعض الحقوق الثقافية والسياسية والقومية، لتكون الغطاء الأساسي لمجموعة أخرى من القرارات التي خطط لها أردوغان منذ فترة طويلة. وألغى الإجراء الجديد الحظر المفروض على الحجاب في جميع مراحل التعليم والتدريس بالنسبة إلى الطالبات، وسمح أيضاً للمُحجّبات بالعمل في جميع مؤسسات الدولة باستثناء القضاء والجيش. وعاد أردوغان بعد أيام من القرارات ليقول إن هاتين المؤسستين أيضاً ستتخذان الإجراءات الخاصة بهما في هذا الموضوع، في إشارة منه إلى الضغط عليهما لتسمحا للمحجبات بالعمل في صفوفهما، ما سيعني أن المواطن التركي قد يجد نفسه قريباً أمام محكمة ما، تترأسها قاضية مُحجّبة، وربما بالجلباب الأسود، تماماً كما هو الزي الذي كان سائداً في العهد العثماني.
تأتي قرارات أردوغان هذه ضمن سلسلة من الإجراءات السابقة على طريق أسلمة الدولة والمجتمع التركي، حيث منع بيع الكحول بعد الساعة العاشرة ليلاً. كذلك وضع قيوداً مشددة على بيع الكحول وشرائها واستهلاكها قرب الجوامع والمدارس والمؤسسات الاجتماعية وغيرها.
وجاء القرار الأهم في حملة أردوغان للقضاء على نتاج الثورة الأتاتوركية وآثارها، عندما ألغى القَسَم القومي الذي يؤديه الطلاب في المدارس صباح كل يوم، بحجة أنه «يتضمن بعض العبارات القومية العنصرية» ومنها: «كم هو سعيد من يقول إنه تركي». أثار هذا القرار ردود فعل عنيفة في الأوساط الشعبية عموماً، لكن من دون أن يتسنىّ لها جميعاً أن تتصدى لهذا القرار وقرارات مماثلة سابقة؛ لأنها لا تملك أي وسيلة من أجل ذلك. فالرجل بات يسيطر على معظم وسائل الإعلام الكبيرة، بعد أن استطاع من خلال الضغط على أصحاب وسائل الإعلام الخاصة التي رضخت جميعها لتعليماته طرد كل الإعلاميين المعادين له وإلغاء برامجهم وزواياهم.
لم يعد أردوغان يتحمل أي نوع من الانتقادات التي قد تعرقل سياساته الداخلية والخارجية ومشروعه الأكبر في إقامة كيان تركي إسلامي جديد على أنقاض الجمهورية الأتاتوركية العلمانية، التي لم يعد يتحدث عنها أحد بشكل أو بآخر. لقد استطاع زعيم حزب العدالة والتنمية القضاء على المؤسسة العسكرية، التي لم يعد لها أي تأثير على مجريات الأحداث الداخلية والخارجية وتحول قادتها إلى مجرد موظفين عاديين يتلقون تعليماتهم من أردوغان شخصياً، لا من رئيس الجمهورية الذي يُعَدّ وفقاً للدستور القائد الأعلى للقوات المسلحة.
وربما لهذا السبب يسعى أردوغان إلى تعديل الدستور وتغيير النظام السياسي، بحيث يصبح رئاسياً، كما هي الحال في أميركا، فيصبح هو رئيساً للجمهورية بصلاحيات واسعة تجعل منه الحاكم المطلق للجمهورية الجديدة.
وقد يتحقق له ذلك بغياب المعارضة الحقيقية؛ إذ يعاني حزب الشعب الجمهوري (المعارض الرئيسي) من مشاكل وانقسامات داخلية لا ترشحه لأن يكون البديل لحزب العدالة الذي ترشحه استطلاعات الرأي للفوز في انتخابات 2015، بعد أن يصبح أردوغان رئيساً للجمهورية الصيف المقبل، على أن يبقى في القصر الجمهوري لفترتين دستوريتين، أي حتى عام 2024،
وحتى يتسنى له أو لأحد من آل أردوغان الاحتفال بالذكرى المئوية للجمهورية التركية عام 2024، التي يريد لها أن تكون جمهورية إسلامية جديدة لا مكان فيها لأتاتورك أو تماثيله وضريحه وربما صوره، بعد أن سيطر على جميع مؤسسات الدولة التركية ومرافقها. تحقق كل ذلك للزعيم الإسلامي في إحكام سيطرته على الرأي العام بعد أن قضى على جميع معارضيه العسكر والسياسيين والإعلاميين، بل وحتى الفنانين الذين أُلغيت مسلسلاتهم في محطات التلفزيون بناءً على تعليماته، وبحجة أن البعض منهم تضامن مع المتظاهرين والمعتصمين في ساحة تقسيم في حزيران الماضي، في الوقت الذي تستمر فيه ملاحقة أمثال هؤلاء وغيرهم من الذين ساهموا في التظاهرات عبر وسائل التواصل الاجتماعي كـ«تويتر» و«فيس بوك».
يبقى السؤال الأهم هو: إلى متى سيتحمل الشعب التركي هذا الأسلوب في فرض برامج سياسية وإسلامية؟ على الرغم من أن هذا الشعب محافظ في طبعه العام، لكنه يفهم الإسلام بأسلوب يختلف تماماً عمّا يفهمه الآخرون في باقي الدول العربية والإسلامية، والسبب في ذلك هو سياسات أتاتورك العلمانية.
أما السؤال الآخر فهو: هل يحظى أردوغان بالدعم الأميركي والغربي المباشر وغير المباشر في تطبيق مشروعه الإسلامي داخل الجغرافيا التركية؟ وإلى متى؟ وخاصة بعد سقوط مثل هذا المشروع في مصر وانتكاسته في سوريا، التي إن اتفق الروس والأميركيون على معالجة أزمتها، فالرهان على مستقبل أردوغان سيطرح نفسه بنحو مطلق، على أن تكون الصورة أوضح خلال الشهور القليلة المقبلة.
فإذا استطاع أردوغان تغيير الدستور عبر البرلمان والاستفتاء الشعبي ليصبح النظام رئاسياً، فسيعني ذلك أن تركيا ستتحول إلى جمهورية إسلامية ستطرح معها الكثير من التساؤلات والنقاشات التي ستلتهي بها دول المنطقة وشعوبها لسنوات طويلة وطويلة. قد تكون دولة على النمط العثماني، تترتب عليها كيانات وسياسات ونماذج وخيانات يريد لها أحفاد «سايكس _ بيكو»، ومعهم هذه المرة باراك أوباما وبنيامين نتنياهو، أن تتكرر وتستمر لمئة سنة أخرى، وما دام المثل العثماني يقول: حافظئي بشر نسيان إلى معلولدر اي (حافظة البشر معلولة بالنسيان).
1 تعليق
التعليقات
-
"تقديم عقارب الساعة الى الوراء"لن يستطيع أردوغان أو سواه إدخال تغيير جذري مستديم في ظروف تركيا الإجتماعية والإقتصادية. ذلك بالرغم من تصاعد إلتجاء العامة للدين في أنحاء الشرق الأوسط وخاصة بعد إفتقاد الإشتراكية، كبديل للنظام الإجتماعي والإقتصادي الخليط الذي يحمل رفات القبلية والإقطاعية في كوكتيل رأسمالي خاص بكل تنظيم إجتماعي راهن. ذلك أن الدين بشكل عام لا يطرح حلولا للمحنة الإقتصادية التي يمر بها نفس العامة الذين تبنوه، و تاريخ الأمم حافل بعشرات الأمثلة بدءا من القرن السابع عشر، ذلك إن عَسِر فهم القاعدة الشعبية للأحداث المصرية الأخيرة. بالإضافة لذلك تركيا أمضت عقودا في تجاهل إنتماءها العضوي للشرق الأوسط، والشرق العربي بشكل خاص. ذلك أدى لبناء قاعدة إقتصادية أوروبية التوجه، تبدو اليوم في تناقض مع البنيان الإقتصادي في الشرق العربي وفي إيران وفي تناقض آخر مع السوق الأوربية التي دخل في عضويتها دول من شرق أوروبا كمنافس مفضل لتركيا ومنتجاتها شبه المصنعة. كما عززت السياسة الخارجية للسيد داوودأوغلو إنعزال تركيا الإقتصادي، فإذا بها بلد محاصر من بلدان ترى في التعاون مع تركيا خطرا سياسيا كما رأت سورية وترى إيران ويرى العراق، بلإضافة للعلاقات السيئة مع أرمينيا وبلغاريا واليونان، والمضعضعة مع روسيا! كل هذا، بإختصار يفرضه ضيق المساحة، يزيد من أزمة عامة الشعب التركي الذي لن ترى في حلول "المتأسلمين" سوى إختطافا لحريات وتغييرا لقواعد سياسية لا علاقة لها بما تحتاجه وتتطلع إليه، كما لا ترى فيها الإحتكارات والمشاريع الرأسمالية التركية وسيلة للخروج من المآزق التجارية والإقتصادية الراهنة. والنتيجة المعهودة واحدة في أي مكان وزمان. والإضطرابات الشعبية في تركيا من شرقها الى غربها دليل على مخاض لن يحتويه تركيز للسلطة أوتعظيم لدور الدين.