أُعلنت في باريس، مساء أمس، التقديرات الأولية لنتائج الجولة الأولى من الانتخابات العامة المبكرة التي أجريت في فرنسا الأحد. وحقّق حزب «التجمع الوطني» اليمني المتطرف بقيادة مارين لوبن اختراقاً كبيراً، بحصوله على تأييد 34% من الناخبين، في سابقة تاريخية، إذ لم يحصل الحزب - خلال نصف قرن من المعارضة - على مثل هذه النتيجة في أيّ انتخابات برلمانية خاضها، وهو ما يضع حزب أقصى اليمين في موقع الصدارة، خلال جولة الإعادة الحاسمة يوم الأحد المقبل. وفي موازاة ذلك، قدّمت «الجبهة الشعبية الجديدة»، وهي تحالف أربعة أحزاب يسارية، أداء ممتازاً، إذ أيّدها 28.1% من الناخبين، فيما حقّق «الجمهوريون» (يمين وسط) نتيجة أفضل من المتوقّع، إذ حصلوا على 10.2% من مجموع الأصوات. أما حزب «النهضة» الليبرالي، حليف الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، فبالكاد تجاوز سقف الـ20%. ومع أن تلك النتائج تشير إلى تحوّل رئيسي في تركيبة السلطة في فرنسا، إلا أن الشكل النهائي لتوزيع المقاعد وبالتالي شكل الحكومة المقبلة، لن يتضحا قبل إعلان نتائج الجولة الثانية. ولكن ثمة توقعات بأن تجري مناورات تكتيكية مكثّفة بين أحزاب أقصى اليمين ويمين الوسط، «التجمّع» و»الاستعادة» (أقل من 2%) و»الجمهوريون» لضمان استبعاد اليساريين من السلطة، فيما قد تتعاظم الضغوط على الوسطيين واليسار لإجراء مبادلات معقّدة لمنع وصول أقصى اليمين إلى السلطة.وكانت اندفعت أعداد قياسية من الناخبين الفرنسيين إلى الإدلاء بأصواتها في الانتخابات المبكرة دعا إليها ماكرون، في أعقاب الهزيمة الساحقة التي مني بها حزب «النهضة» أمام حزب «التجمّع الوطني في الانتخابات البرلمانية الأوروبية (9 حزيران)، والتي تحوّلت إلى ما يشبه الاستفتاء على عهده. وتوقّعت مراكز استطلاعات الرأي أن تكون نسبة التصويت قد تجاوزت 65% من أصل 49 مليون ناخب مسجّل. ويتنافس نحو أربعة آلاف مرشّح في الجولة الأولى من التصويت، على 577 مقعداً تشكّل الجمعية الوطنية (مجلس النواب)، لكن سيكون على هؤلاء، في حال لم يحسموا فوزهم من هذه الجولة، استيفاء عتبات محدّدة للانتقال إلى جولة الإعادة الثانية، والتي ستجري الأحد المقبل (السابع من تموز).
ومن شأن فوز «التجمع الوطني» أن يمنح أقصى اليمين فرصة لتشكيل الحكومة لأوّل مرّة منذ أيام حكومة فيشي، إبّان الاحتلال النازي لفرنسا خلال الحرب العالمية الثانية. وإذ يرجع ذلك، جزئياً، إلى أن أكثرية الفرنسيين متّفقة على ازدراء ماكرون، وتعتبره استعراضيّاً ونخبويّاً وبعيداً من الواقع، فهو يفسر أيضاً بأن خطاب حزب لوبن يجتذب قطاعاً لا يستهان به من المواطنين، بسبب «عزفه» على وتر قضايا تكاليف المعيشة وتآكل الأجور، بالإضافة إلى موقفه التقليدي المناهض للمهاجرين، خصوصاً في وقت ينزاح فيه الرأي العام الأوروبي يميناً، وتتركّز سياسات الهوية في قلب الجدل السياسي.
فوز لوبن يعني فقدان ماكرون التأثير على مجمل الشؤون الداخلية، والاكتفاء دستوريّاً بملفَّي العلاقات الخارجية والدفاع


ويحتاج الفوز بأغلبيّة تكفي للانفراد بتشكيل حكومة، إلى حصول الحزب على 290 مقعداً، وهو أمر ما زال يمكن «التجمّع» - نظريّاً - تحقيقه، وبخاصة في حال تلقّيه دعماً كافياً من جمهور أحزاب يمين الوسط (الجمهوري)، وحزب أقصى اليمين الآخر (الاستعادة، بقيادة إيريك زيمور)، يما يمكن أن يمهد الطريق أيضاً أمام حكومة يشكّلها السياسي الشاب، جوردان بارديلا (28 عاماً)، ليصبح أصغر رئيس وزراء في تاريخ فرنسا.
في المقابل، فإن تحالف اليسار، الذي أُطلق عليه اسم «الجبهة الشعبية الجديدة»، ويجمع حزب «فرنسا الأبية» (أقصى اليسار) بقيادة المرشح الرئاسي لثلاث مرّات جان لوك ميلانشون، إلى «الاشتراكيين» (حزب يسار الوسط) الذي حقّق نتيجة أفضل من نتيجة حزب ماكرون في الانتخابات الأوروبية ، كما «الخضر»، و»الشيوعيين»، سيشكل كتلة معارضة وازنة في الجمعية الوطنية. وراهن بعض المراقبين على «الجبهة الشعبية» لتحقيق انتصار مفاجئ، في حال تمكّنت من استقطاب أصوات كل الفئات المتخوّفة من انتصار أقصى اليمين. ومع هذا، فإن مكوّنات هذه الجبهة ليست مستقرّة، إذ تتباين وجهات نظرها حول العديد من القضايا، فيما فشلت، إلى الآن، في التوافق على اسم مرشّحها لمنصب رئيس الوزراء - على رغم مطالبات ميلانشون المتكرّرة بذلك -، ما يرجّح أنّها ستكتفي بلعب دور كتلة المعارضة.
وبحسب القانون الانتخابي، فإن أمام الأحزاب فرصة 48 ساعة لتقرّر خوض مرشّحيها لجولة الإعادة، وهو ما قد يقود توافق اليسار والوسط على انسحابات متبادلة لمنح فرصة فوز أعلى للمرشّح الأقوى من بين ممثّليهما في مواجهة مرشّح «التجمّع». ومع ذلك، يعني تراجع حزب «النهضة» فقدان الرئيس التأثير على مجمل الشؤون الداخلية، والاكتفاء - دستوريّاً - بملفَّي العلاقات الخارجية والدفاع. وحتى هذه، فإن لوبن تريد مزاحمة ماكرون في شأنها، في حال تولّى حزبها تشكيل الحكومة، ما يثير قلق بروكسل (مقر الاتحاد الأوروبي). أيضاً، فإنه لا يمكن الرئيس حلّ البرلمان إلا بعد عام على الأقل، الأمر الذي سيشلّ قدرته على المناورة حتى في مسائل العلاقات الخارجية، حيث مسائل من مثل تخصيص ميزانيات من الأموال لدعم النظام الأوكراني، أو فرض تشريعات خضراء على الإنتاج الزراعي والصناعي في البلاد ستمرّ في المحصّلة عبر الجمعية الوطنية التي سيسيطر عليها مزاج لا يروق عموماً لبروكسل، لتكون تلك نهاية عملية مبكرة للمرحلة الماكرونية من تاريخ فرنسا، قبل ثلاثة أعوام كاملة من موعد انتهاء ولايته الثانية والأخيرة. ولعل أفضل إشارة إلى مزاج التشاؤم الليبرالي هذا، انخفاض بورصة باريس إلى أدنى مستوياتها في عامين، حيث تراجعت بنسبة 6.4% مع نهاية يوم الجمعة الماضي، ونشر استطلاعات الرأي الأخيرة قبل فتح صناديق الاقتراع.