كثيرة هي علامات الاستفهام التي أثارها التفجير غير المسبوق في تركيا منذ ستّ سنوات، سواءً لناحية هويّة الجهة التي تقف خلْفه، أو الهدف من ورائه، أو ما سيستتبعه من تداعيات في الداخل والخارج. وإذْ يمكن وضْع جهات كثيرة على عداوة أو خصومة أو حتى في حالة توتّر مع أنقرة، في دائرة الاتّهام، فإن الأخيرة سارعت إلى تحميل «حزب العمال الكردستاني» المسؤولية عن الحادثة، مع ما قد يستجلبه ذلك من تصعيد للحملة ضدّ القوى الكردية، سواءً في سوريا أو العراق. وبينما يبدو واضحاً أن الرئيس رجب طيب إردوغان سيحاول، كما فعل سابقاً، الاستثمار في الواقعة لصالحه، فإن الشكوك تظلّ كثيرة حول ما إذا كانت تركيا أمام «موجة فوضى» ممتدّة، أو ما إذا كانت ثمّة إرادة لتوجيه سفن الانتخابات الرئاسية في هذا الاتّجاه أو ذاك
فاجأ التفجير الذي ضرب شارع الاستقلال في مدينة إسطنبول، بعد ظهر الأحد، المستوى السياسي التركي، وخصوصاً الرئيس رجب طيب إردوغان الذي كان، لدى حدوثه، في مطار المدينة يتهيّأ للسفر إلى بالي الإندونيسية للمشاركة في قمّة دول «مجموعة العشرين». والانفجار الذي وقع في تمام الساعة الثالثة والثلث من بعد ظهر أوّل من أمس بتوقيت بيروت، ذهب ضحيّته ستةُ قتلى وأكثر من ثمانين جريحاً، خمسة منهم وُصفت حالتهم بالحرجة. وعلى إثره، دان الزعماء الأتراك الحادثة، وشدّدوا على ضرورة «التضامن الاجتماعي»، فيما دعت معظم الصحف إلى عدم الانحناء أمام «إمبراطورية الفوضى» الجديدة.
ويمكن ابتداءً، ملاحظة أن الانفجار هو الأوّل في تركيا منذ ستّ سنوات؛ إذ وقعت آخر الحوادث المشابهة في الـ 10 من كانون الأوّل عام 2016 قرب «استاد إينونو» الرياضي في بشكتاش في إسطنبول، وسبقها في العام نفسه حادثان: أوّلهما في الـ 16 من شباط في أنقرة، وثانيهما في الـ 12 من كانون الثاني في إسطنبول أيضاً، وكذلك تفجيران آخران كبيران في الـ 10 من تشرين الأوّل في محطّة أنقرة للباصات، وفي الـ 20 من تموز 2015 في مدينة سوروتش جنوب شرق تركيا. ويَطرح وجود فاصل زمني طويل بين آخِر واقعتَين، سؤالاً كبيراً عمّا إذا كانت حادثة الأحد بداية لموجة تفجيرات ستضرب المدن، وتُدخِل تركيا في فوضى أمنية وعدم استقرار سياسي. من جهة ثانية، يُلاحَظ أن الاعتداء وقع في منطقة قد تكون الأكثر اكتظاظاً بالسكّان والمارّين، ليس في تركيا فقط، بل في العالم ربّما، وهو ما يمكن تفسيره بأن الفاعل أراد أن يُحدِث بتفجيره أقصى صدى ممكن على مستوى العالم، نظراً إلى شُهرة المكان الذي يكون عادةً قِبلة كلّ زائر إلى إسطنبول. ومع أن عدد القتلى ليس كبيراً، فقد كان مقدّراً للانفجار أن يُوقع أيضاً أكبر عدد من الضحايا.
على أيّ حال، توجّهت الأنظار فوراً إلى الجهة التي يمكن أن تكون وراء التفجير، ومدى ارتباط فعْلها بالتطوّرات الراهنة والمستقبليّة. وفي هذه الحالة، يمكن التحليلات أن تذهب إلى كلّ الجهات التي لها علاقة سيّئة أو متوتّرة مع تركيا، أو تلك التي يمكن أن تَظهر كذلك. وجاء الاعتداء في وقت تشهد فيه البلاد، منذ عدّة أسابيع بل أشهر، تطوّرات بالغة التداخل والتركيب؛ حيث بادرت السلطات إلى مصالحات مع الإمارات والسعودية وإسرائيل، ووثّقت علاقاتها مع روسيا، واتّخذت موقفاً «متوازناً» من الحرب الأوكرانية، فيما انفتاحها على مصر وسوريا لم يصل إلى أيّ نتيجة بعد. كما أتى بينما تُواصل تركيا خوْض حرب ضروس ضدّ «حزب العمّال الكردستاني» في شمال العراق، بالتزامن مع دخولها في سباق شرس حول معركة الرئاسة بين إردوغان وخصومه، والتي ستجرى في حزيران المقبل، جاعِلةً الكلّ في الداخل والخارج معنيّاً بمصير إردوغان، بين مَن يريد له الاستمرار مِثل روسيا وإيران، ومَن يريد التخلّص منه، وهُم كلّ الجهات المتبقّية. لذا، لم يكن مستبعداً أن تشهد الساحة التركية تطوّرات يُراد لها أن تؤثّر في هذا الاتجاه أو ذاك، نظراً إلى أهمية تركيا في مجمل الأحداث التي تَجري، سواء في داخلها أو في العالم.
التفجير الذي وقع هو الأوّل في تركيا منذ ستّ سنوات


وعلى رغم أنه تُمكن الإشارة بأصابع الاتّهام إلى كلّ خصوم إردوغان وتركيا، إلّا أن بعض هؤلاء، مِثل اليونان، لم يُعتَد عليه أن يَستخدم أسلوب التفجيرات في الصراع مع أنقرة. أيضاً، فإن تحميل المسؤولية لأفراد من تنظيم «داعش» ربّما لا يستقيم مع هامش المناورة الذي عَرفه التنظيم إزاء السلطات التركية، ولا مع عمومية المكان المستهدَف من دون التركيز على عنوان محدَّد من قَبيل سفارة أو مصرف أو مركز ثقافي أو غيره. ومن هنا، فإن الاتّهامات يمكن أن تتوجّه مباشرة، وهذا ما فعله وزير الداخلية التركي، سليمان صويلو، بالفعل، إلى «العمّال الكردستاني»، بالاستناد إلى أن الحزب تلقّى ضربات قاسية في شمال العراق على يد الجيش التركي، وقد يكون قرّر نقل المواجهة بينه وبين أنقرة، إلى الداخل التركي والمدن تحديداً، ولكن يبقى ما تَقدّم مجرّد فرضية لا تستند إلى أدلة. وفي تداعيات السيناريو المذكور، يشي إعلان تركيا أن مُنفِّذة العملية، أحلام البشير من التابعية السورية، تنتمي إلى «حزب العمّال الكردستاني» وعَبَرت إلى الأراضي التركية من مدينة عفرين، وتلقّت تعليماتها من مسؤول عسكري كردي في مدينة كوباني/ عين العرب، بأن أنقرة قد تسعى إلى استغلال ذلك في تبرير قيامها بالعملية العسكرية التي كانت قد أجّلتها مِراراً بضغط من روسيا وإيران، ضدّ «قوات سوريا الديموقراطية» في شمال سوريا، وتوسيع الاحتلال التركي في اتّجاهات مختلفة، ولا سيما في شمال حلب وربّما في شرق الفرات. وعليه، فإن ما كان قد بدر من أجواء تفاؤلية حول مساعي المصالحة بين دمشق وأنقرة، يتلقّى ضربةً كبرى، ويعيد الوضع في سوريا إلى سابق عهده من التوتّر الدموي.
في المقابل، قد يجوز وضْع الولايات المتحدة في دائرة الاتّهام؛ ذلك أن واشنطن منزعجة من موقف أنقرة من الحرب في أوكرانيا، وتمرّدها على القرارات الغربية بمعاقبة روسيا، ومُضيّها في توثيق علاقاتها مع الأخيرة، فضلاً عن غياب الودّ بين إردوغان والرئيس الأميركي، جو بايدن، الذي كان قد توعّد الأوّل بإسقاطه في الانتخابات الرئاسية المقبلة، ولم يجتمع معه حتى الآن في أيّ لقاء رسمي بين رئيسَي دولتَين. من هنا، لا يَستبعد البعض أن يكون تفجير إسطنبول بداية لمرحلة ضغوط إضافية أميركية على إردوغان، لإظهاره بمظهر الفاقد هيبته، وإضعافه، والقول للأتراك إن الأمن والاستقرار غير ممكنَين في حال إعادة انتخابه رئيساً من جديد. وهو احتمال يفتح على توقُّع تكرار تفجير إسطنبول في أكثر من مكان.
ومهما يكن، وفي حال استبعاد نظرية المؤامرة، فإن التفجير سيشكّل فرصة لإردوغان من أجل شنّ حملة تخوين على خصومه في الداخل، المتّهَمِين بالتعامل مع واشنطن ولندن، ولا سيما بعد زيارتَين لزعيم المعارضة، كمال كيليتشدار أوغلو، أخيراً، إليهما، وأيضاً تصعيد الهجوم على «حزب العمّال الكردستاني» من أجل تعزيز صورة البطل القومي والوطني، وهي توظيفات لم يتردّد إردوغان في استخدامها في أكثر من مناسبة سابقة منذ تولّيه السلطة، ولا سيما بعد محاولة الانقلاب العسكري ضدّه في عام 2016. وربطاً بالتفجير، وضعت الحكومة التركية، للمرّة الأولى، قانون الرقابة الجديد موضع التنفيذ؛ فمنعت وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي من نشْر أيّ أخبار تتعلّق بالحادثة. كما حقّقت في عدد كبير من التغريدات والكتابات «السلبية» على وسائل التواصل، وهو ما دفع العديد من زعماء المعارضة إلى التوقُّف عند خطورة هذا القانون، مُحذّرين من «الاستغلال السيّئ» له، وفق ما ذهب إليه مثلاً زعيم «حزب الديموقراطية والتقدُّم»، علي باباجان، قائلاً إن رئاسة الجمهورية «تقمع الصحافة وتبثّ الخوف وتفخّخ الحرّيات الأساسية».