تلامس الرواية القواتية حقيقة ما جرى، ولو بطريقة مجتزأة، لتتناسب ومصلحتها. فالمشكلة الرئيسية لم تكن في العراك نفسه، بل في الحملة التي خاضت القوات الانتخابات على أساسها. يوم 18 تشرين الأول 2019، حمل جعجع الانتفاضة على أكتافه، صارخاً أنه صانعها وعاجنها ورأس حربتها. على هذا الأساس، دعا القواتيين للنزول الى الشارع، فانتشرت مجموعاته في الشفروليه والزوق وجل الديب والأشرفية من دون أن تتمكن من الذوبان بين الناس... والمجموعات المدنية الناشطة. ليس الاختلاف، من النواحي الاقتصادية والسياسية، مع الناشطين مجرد تفصيل، ولا يشبه اختلاف المجموعات بين بعضها البعض وتوافقها على هذا الهامش من حرية التفكير والتعبير. فلا شيء يجمع الحزبي القواتي مع الناشط في المجموعات القديمة وتلك التي نبتت على هامش الانتفاضة. يظهر ذلك جلياً عند كل استحقاق، وكان فاضحاً في انتخابات اليسوعية. خاض القواتيون «ثورتهم» بحملة طائفية استعادت كل شعارات اليمين المتطرف في مرحلة ما بعد الحرب الأهلية؛ علماً بأنهم عابوا على التيار الوطني الحر في السنوات الأخيرة استخدامه لغة خشبية بالية مماثلة. لكن معرفة القوات المسبقة بحساسية وضع طلابها، دفعهم الى إخراج «بشير الجميل» لشدّ عصب الحزبيين وخصوصاً بعد حادثة التضارب بينهم وبين أنصار حزب الله، ظناً منهم أن هذا العراك يصبّ لمصلحتهم. انبرى شباب معراب يتحدثون عن ضرورة عودة حزب الله الى «كانتونه» وألا يقترب من «كانتوننا» وإلا «سندعسهم». فأتت النتيجة بعكس ما يشتهون، إذ حسم «غير المتلونين» موقفهم نتيجة هذه الشعارات، «لا هم يريدون الساطور ولا اليميني الطائفي مطلق الشرارة»، على ما تقول احدى الطالبات. باختصار، شلح القواتيون ثياب «الثورة» وعادوا الى بزاتهم الزيتية، فيما كان «الكتائب» أكثر ذكاءً بتلطّيه خلف «المستقلين» ثم إعلانه عن الكتائبيين الفائزين بعد فوزهم كمستقلين. وأصلاً كانت هناك صعوبة بتزوير الحقائق بعد خروج النادي العلماني من لواء المستقلين ليبني منصته الخاصة التي سماها «طالب».
في موازاة انكشاف القوات ومآربها والتعامل معها كحزب من أحزاب السلطة الرئيسية، وذلك رهان خسرته معراب، هناك خسارة فادحة تتمثل بعدم الإبقاء على أي حليف ليساندها. والحديث هنا لا ينحصر بانتخابات جامعية، بل بمستقبل حزب سياسي يطمح رئيسه للوصول الى سدة الرئاسة، لكنه في الوقت عينه ينسج عداوات على مساحة 10452 كيلومتراً مربعاً. على من يعوّل جعجع لانتخابه إذاً في المجلس النيابي؟ وكيف سيتمكن من خوض استحقاقات سياسية داهمة بمفرده أو حتى التسويق لطروحاته ومشروعه؟ لا تيار المستقبل بجانبه ولا الاشتراكي يناصره ولا الكتائب يسير وراءه ولا يجمعه بحزب الله وحركة أمل أي تفصيل. رغم ذلك، يتحدث المقربون من جعجع عن مجموعة أوهام يترجمها العقل المعرابي كانتصارات مقبلة. وهذه الأوهام ليست وليدة اليوم، بل إرث يحمله معه من أيام بشير الجميل. فالأخير كان على عداء مع دائرته الضيقة بمن فيهم شقيقه. وذلك، وفقاً لما يتناقله القواتيون، كان السبب الأبرز وراء انتصاره. فلما انقلب المناخ الدولي وانتصر المشروع الأميركي ــــ الإسرائيلي في لبنان (لمدة قصيرة)، فاز بشير الجميل بالرئاسة.
عوّل القواتيّون على شدّ عصب طالبيّ عقب الخلاف مع حزب الله فأتت النتيجة بعكس ما يشتهون
مراهنة جعجع لا تخرج عن هذا السياق: بنظره بيت الحريري مصاب بالهريان نتيجة انخراطه في التركيبة، والطروحات الجنبلاطية فقدت جاذبيتها منذ زمن وباتت غير مجدية لأي طرف، في حين ابتلعت المجموعات الكتائب ودجّنته. لذلك تغير المعادلة الإقليمية هذه المرة «بعد سحق إيران وحزب الله»، سيبقي على جعجع وحده في قمة الجبل، ليأتي رئيساً مدعوماً من المشروع إيّاه. الأوهام تلك تأتي مكملة لأوهام قديمة سبق أن عوّل عليها رئيس الحزب من مناصرة الطائفة السنية له في المناطق «المختلطة» الى نزوح العونيين المنشقين صوب معراب، وصولاً الى الاستهزاء بتأثير سامي الجميل على جمهوره، واعتباره رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل حالة سياسية آفلة يعوّمها حزب الله. هذا السياق المتوقع للأحداث، لن تؤثر فيه انتخابات جامعية تشكل بالنسبة إلى جعجع مجرد لعبة ليلهو بها «النخبويون»، فيما تعويله الأساسي يبقى على أبناء القرى التي يحتك مسؤولو الحزب وإياهم يومياً ويوفرون لهم الخدمات والغطاء. ليست الجامعات سوى «بريستيج» لا يخدم معراب متى «دقّ الخطر» واحتاجت إلى تعبئة جهازها الأمني أو استثارة الشارع طائفياً أو إعادة رسم خطوط تماس جديدة.
اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا