سُرِقَ الشعب اللبناني على مدى أكثر من عشرين سنة. آلاف مليارات الليرات تبخّرت، فُقِدت أو سُرِقت، من الخزينة العامة. هذا الرقم حقيقي موثّقٌ بالمستندات والتقارير وإفادات موظفين وشهود، لكنّ أحداً لم يُحاسَب. اشتهر الملف باسم ملف الـ«11 مليار دولار» التي أنفقتها حكومة الرئيس فؤاد السنيورة الأولى بين عامي 2006 و2008، من دون غطاء قانوني. لكن الملف لا يقتصر على تلك الفترة، بل يشمل كل حسابات الدولة منذ عام 1993، بعدما أنجزتها الإدارة في وزارة المالية وكشفت فيها الكثير من السرقات و«المال الضائع». يرقد هذا الملف في مكتب المدعي العام المالي القاضي علي إبراهيم منذ فترة تقارِبُ السنة. لم يصل إلى أيِّ نتيجة بعد. استمع القاضي إبراهيم إلى عدد كبير من الموظفين. من بين هؤلاء المدير العام لوزارة المالية طوال ١٥ سنة آلان بيفاني، وهو الذي أدار عملية إعادة تكوين حسابات الدولة، ما أدى إلى توثيق السرقات والمخالفات. استمع إبراهيم أيضاً إلى مديرة الصرفيات ومديرة الخزينة ومديرة المحاسبة في المالية ومستشارَين للرئيس فؤاد السنيورة، بينهما نبيل يموت، إضافة إلى آخرين. غير أنّ أحداً لم يتم توقيفه بذريعة عدم وجود دليل قاطع سوى الفوضى السائدة جرّاء انعدام المكننة في المالية! اطّلعت «الأخبار» على مئات الوثائق والمستندات التي قدّمها النائب حسن فضل الله للقاضي علي إبراهيم، ومن ضمنها تقرير المدير العام بيفاني الذي يتضمن فضائح وتجاوزات كبرى.هذه الملفات التي تحدث عنها نائب حزب الله في شباط الفائت، سلّمها إلى القضاء، مانحاً إياه مهلة للتحرك، قبل الخروج بها في «محاكمة علنية». ثمة شبهات بوجود مليارات الليرات قُبِضت بأسماء وهمية. فضلاً عن تسجيل هبات بعشرات الملايين بأسماء موظفين في الوزارة من دون علمهم، إضافة إلى تدوين الحوالات نفسها أكثر مرة، وصولاً إلى خمس مرات في بعض الأحيان! ثمة قرارات مريبة كانت تتخذ داخل الوزارة، وخاصة في تسعينات القرن الماضي، كأن يُصدر وزير المال قراراً يمنع بموجبه مدير المحاسبة من الدخول إلى الحسابات في الوزارة! ورغم الحديث عن فوضى وإهمال تسببا بالهدر، لكن وجود مئات المستندات التي تدل على السرقة الموصوفة، يشير إلى وجود نيّة مبيتة للاختلاس، ويبقى على القضاء تحديد المختلس ومَن سمح له بتنفيذ جريمته.
بعد أشهر من الانتظار، سُرِّب أمس خبر عن تبلّغ رئيس الوزراء الأسبق فؤاد السنيورة، بواسطة النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات، بطلب الاستماع إليه من قبل القاضي علي ابراهيم اليوم. سريعاً، نُقِل عن عويدات قوله إن الجلسة أرجئت إلى الرابع عشر من الشهر الجاري «لتعذّر تبليغ» السنيورة.
حصر الاستماع إلى السنيورة بملف الـ11 مليار دولار يمهّد لـ«تثبيت براءته»

غير أن ما برز لافتاً هو الخبر الذي نُشر على «الوكالة الوطنية للإعلام» عن أن «النائب العام المالي علي ابراهيم قرر الاستماع إلى إفادة الرئيس فؤاد السنيورة، حول موضوع صرف مبلغ 11 مليار دولار عندما كان رئيساً للحكومة بين عامي 2006 و2008». هذا الخبر، في حال صحّته، يُشكّل صدمة كبرى، لكونه مؤشراً على نية «تثبيت براءة» السنيورة، بحسب مصادر متابعة للقضية. فأهون ما في الملف هو كيفية إنفاق 11 مليار دولار في حكومة السنيورة الأولى، من دون إقرار قانون للموازنة. أما غالبية المخالفات والسرقات، فمسجّلة في الفترة السابقة، وتتصل بـ«الفوضى المنظمة» التي كانت تحكم وزارة المالية بين عامي 1993 و2013. لكن، إذا أراد القاضي ابراهيم الاستماع إلى السنيورة بصفته رئيس حكومة أسبق، فأمامه ملف الهبات التي قُدّمت إلى لبنان بين عامي 2005 و 2007 والبالغة ٣ مليارات دولار: كيف صُرِفت أموال هذه الهبات؟ وضعت في حساب الهيئة العليا للإغاثة على أن لا يُصرف قرش واحد منها إلا بتوقيع رئيس الحكومة، علماً أن الأمين العام للهيئة ورئيس الحكومة ينتميان إلى التيار السياسي نفسه. كذلك تحضر أسئلة ينبغي أن تُقدّم الأجوبة عنها إلى دافعي الضرائب، وأولها: إذا كان التحقيق جدياً، ويهدف إلى استعادة الأموال المنهوبة فعلاً، فماذا فعل ديوان المحاسبة بالحسابات المالية التي وصلت إليه منذ أشهر؟ لماذا لم ينجز تقريره بشأنها بعد، رغم أنّه كان يتذرع بالشغور الذي عاد ومُلئ، كما سُمِح له بالاستعانة بمدقّقين من القطاع الخاص لتدقيق قطع الحساب والحسابات المالية؟ وأين أصبح تقرير وزارة المالية الذي يبلغ نحو 300 صفحة بشأن الهدر الحاصل والأموال المفقودة؟ ولماذا لم يُقدَّم بعد إلى الهيئة العامة لمجلس النواب؟