يتأتّى جرح الوجود من حادثة الوجود عينها. يفجّر الجرح الوجودي الهوية باستمرار. يسيّل من عيونها، من الذاكرة، قنابل الصوت الجازر المانع وتهويدات اللطف والسكون في آنٍ. يجد هذا الجرح طريقه. يؤرّخ مسيره. يعطي الإيلام والشفاءات أسماء وموضوعات بدافع التبرير لكن لا ينطلي عليه خداع اللغة، فلا تُغيّر المجازات والاستعارات من ماهيته في شيء. هو يعرف مسيره في كل كينونة بعد أن يتعرف إليها. يدمغها ويصبح هو ندبتها كما هو ندبة العالم الواحد. من يفتح عينه لمخرز هذا الجرح ولا يخاف أن تُقلَع؟ من يمشي في أرضه ولا يُذهل أنه لسببٍ ما، في مكانٍ ما، لا يزال يرتفع ويسقط.
(هيذر بيوخلر- «الصفح»)

يظل الجرح الوجودي سارياً كنهرٍ متدفق نحو الأعلى، حافظاً تأريخه للذاكرة. على إحدى ضفتيه يتشارك جَمعٌ عجزوا عن فهمه. كيف تسرّب إليهم، متى ومن أين؟ يتقاسمون الأسئلة والعجز البدائي المُساق بذاكرة تنغلق على آلامها. وعلى ضفته الأخرى ليس هناك من أحد مذنب ولا بريء. لا يوجد ضحايا أبديون لشيء أو لأحد، على هذه الضفة الأخرى خاض الجمع عتمة الذاكرة حتى أفرجت عن آلامها.
لطالما مشيت في جرحي. نبشت مساربه لكنّي سرعان ما اكتشفت أنه من نبع خفي، وإن كنتُ أستطيع ردّه ظاهرياً لواقعة الوجود عينها. لذا وبإملاء فطري وجدت أن عليّ الغفران. هذه الخفّة التي حملتني للمضيّ في الجرح قادتني للسؤال: ما الذي أريد دوماً منح الغفران له؟ كيف ولماذا؟ من أرشدني إلى الغفران تحديداً، في الحين الذي كان يجب الإملاء فيه أن يصرخ: لا تغفري!

معادلة الغفران الصعب
في كتابه «الذاكرة التاريخ النسيان» يبحث الفيلسوف الفرنسي بول ريكور في معادلة الغفران باعتبار أن الغفران هو مشكلة الذنب والمصالحة مع الماضي. كما يبحث في استعمال الذاكرة واستعمال النسيان باعتبار أن النسيان هو مشكلة الذاكرة والوفاء للماضي. فيتحدث ريكور عن القطبية المكوّنة لمعادلة الغفران الصعب بين عمق الذنب والاعتراف به في الأسفل، وبين علوّ نشيد الغفران في الأعلى. هذه الصعوبة هي مفترق الخيار بين العبور في الجرح الوجودي والتجديف في ظلماته، أو البقاء في ضفة الحيرة والعجز.
هذان القطبان الذي يكشف فيهما الأول عن موقع الاتهام الأخلاقي (التبعة) حيث يرتبط الفاعل بفعله ويتوجب حسابه عليه، فيما يكشف القطب الثاني عن الشِّعر الحِكَميّ الرائع الذي يحتفي بالحب والفرح دفعة واحدة. فمعادلة الغفران الصعب هذه، تنبع من عدم التناسب بين قطبيها وتتخذ صورة سفرٍ هدفه قيادة الغفران تدريجياً من المناطق الأبعد للهوية الذاتية إلى موقع استحالتها المزعومة. تلك الاستحالة التي ترد على الطابع المتعذر على الصفح أمام الشر الأخلاقي.
يعتقد ريكور أن تجربة الذنب تحصل بشكل جوهري على صعيد الشعور حيث تمنح التفكير فرصة للتأمل، فيصبح الذنب بهذا حامل التبعة للفعل والبيئة الأساسية التي يتسجّل بها الشعور به. لا يمكن أن يوجد الغفران حيث لا يوجد افتراض بذنب منسوب إلى فاعل يُعتبر الصانع الحقيقي للذنب. والاعتراف بالذنب هو الصورة النموذجية التي تنسب الذات بها الخطأ إليها. الذنب هنا هو خرق لقاعدة. يحتوي الخرق على إساءة وأذى يلحقان بالغير، وبهذه الصفة هو مدانٌ لدى الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط لأنه المقدار السلبي للممارسة العملية، وبهذا يكون مُحَدداً بحدود خرق القاعدة حتى وإن اتخذت النتائج بسببه أشكالاً كارثية وسبّبت آلاماً لا تُحَدّ. لذا في الهبوط إلى أعماق تجربة الذنب، فإن الكلمة التي تطفو تلقائياً أنه لا يُغتفَر. المجدّف في عتمة الجرح يهبط إلى قاع الذنب سواء كان مذنباً بذاته أم ضحية تتوهم أنها مذنبة. أما العبور فيتطلب الخفّة.
إنَّ التعبير «لا يغتفر» لا يقتصر على ارتكاب الفعل (الإساءة أو الجرم)، كما لا يقتصر على ما يقع تحت مقولة «ما لا يُبرر» بسبب ضخامة الكارثة التي قد تنزل بالضحايا، إنما يتعدّى ذلك إلى العلاقة الأكثر حميمية بين الفعل والفاعل، بين الذنب والمذنب. فالتصاق شعور الذنب بالوضع البشري هو ما يجعل منه لا يُغتفَر، وذلك على سبيل الحق والقانون وليس على سبيل الواقع فحسب. أما نزع الشعور بالذنب فيعني تحطيم الوجود برمّته: من أوله لآخره.
إن مجرّد الإقرار بوجود الغفران يُعَدّ تحدياً من قبل الأخلاقية الفلسفية التي تحصّن نفسها من تسلّل اللاهوت إليها. ولذلك يعتبر ريكور أن التعبير عن وجود الغفران يحمي غائبية العلوّ، العلوّ الذي لا يُنسَب إلى أحد، العلوّ الذي يكون الغفران بطله المطلق. إن ريكور رأى أن كلمة «الموجود» الخاصة بصوت الغفران تتكلم عن صوت آتٍ من العلوّ، كما يأتي الاعتراف من عمق الهوية الذاتية التي لا يمكن سبر عمقها. فصوت الغفران هو صوت صامت لأنه ليس صياحاً لكنه ليس صوتاً أخرسَ لأنه ليس محروماً من الكلام. الخطاب المكرّس للغفران هو خطاب النشيد الذي لا يحتاج أن يقول من الذي يغفر ولمن. الغفران موجود كما الفرح والحكمة والجنون والحب بالضبط. إن الغفران ينتمي إلى العائلة ذاتها.
إن المحبة التي ينشدها النشيد هي التي تصدّق كلّ شيء، وترجو كلّ شيء، وتتحمل كلّ شيء. المحبة التي لا تفرح بالظلم ولا تحاسب على الشر وتضع فرحها في الحقيقة. وإن كانت لا تحاسب على الشر فهذا لأنها تنزل إلى موقع التبعة التي تتحملها النفس، وإن كانت تقال بصيغة الحاضر فذلك لأن الحاضر هو زمن الاستدامة والديمومة الأقل تشتّتاً، كما يقال في لغة برغسون: «إنها لا تمرّ على الإطلاق». إنها تبقى بامتياز أكثر وأعظم من بقية الأمور العظيمة كالرجاء والإيمان، إنها الأعظم وهي العلوّ بعينه. والحال إن كانت المحبة تغفر كل شيء فهي تغفر ما لا يغتفر. هي قشة العابر الغريق. مانح الغفران لنفسه ولذاكرة المذنب التي تناظره في الألم.
نرى هنا أن ريكور يتفق مع جاك دريدا بأنّ الغفران يُوَجَّه فقط إلى ما لا يقبل الغفران والصفح. إن الغفران مقرون بشرط استحالته، فلا يفترض وجود طلب له حتّى. يقول دريدا: «ليس هنالك غفران -إذا كان ذلك موجوداً- إلا حيث هنالك ما لا يغتفر». للفيلسوف التونسي فتحي المسكيني رأيٌ شبيهُ يطاول هذا الموضوع أيضاً، إذ هو يرى أنه ليس كلّ آخر موضوعاً للغفران والصفح، بل الآخر الذي أساء إلينا «فقط». أي إساءة كانت، سواء تعلقت بحرمة الجسد أو بتصور معين لدينا عن هويتنا وأنفسنا وبكل ما هو جزء منا ويُعَدُّ عرضةً للإساءة، ولهذا لا نستطيع أن نزعم أن الصفح يرد على الهدية أو التودد أو على شخص مَن يمنحهما.

الذاكرة بين عملها الحيوي وواجب العدالة
إن عمل الذاكرة الحيوي هو التمكن من التمييز بين ما هو ماض وحاضر، وفهم الحاضر انطلاقاً من الوعي للماضي، حيث يكمن الخطر في عدم الإحساس بمخاطر عايشتها الذات في الماضي. يبدو الغفران هو المفصل في عدم إساءة استعمال الذاكرة وعدم إساءة استعمال النسيان، والذي عليه أن يبدأ من الغفران للذات عن كل إمكانات الخطأ والذنب التي تحملها ذاتية الفرد. فهذا الصفح عن الذات هو شرط لكل صفح أو غفران لذنوب الآخرين. يقول فتحي المسكيني إنه: «لا يمكن معالجة الصفح عن الآخرين ما لم نتمكن من الاعتراف لأنفسنا والصفح عنها لقبول ذوات جديدة تُعدّ شكلاً مشروعاً من الانتماء الأصيل لأنفسنا، فمن لا يقبل بنفسه كما هو في صيرورته البريئة لن يمكنه الصفح عن غيره، لأن الغفران في سره ومكمنه هو عفوٌ عن الجماعة الأخلاقية التي ننتمي إليها وتُكوِّن طبقة من طبقات أنفسنا».
هنا يتبدّى واجب الذاكرة الذي تحدّث عنه ريكور. واجب الذاكرة هو شرط تحقيق العدالة للآخر كما للذات. فالذاكرة ملزمة بذلك من خلال إلغاء تمركز الإنسان على نفسه، أي تمركز الذات وانغلاقها لكي لا تصبح صماء وعمياء وعاجزة عن فهم آلام الآخرين. فالذاكرة المنغلقة على آلامها هي التي يجوز نقدها وتصحيحها وحتى تكذيبها. ومردّ ذلك إلى أن الذاكرة تتشكل من خلال الآخر، وهذا يتطلب التعايش بين الذاكرة الفردية والجماعية من خلال مستوى وسيط.
يعتبر ريكور أن المستوى الوسيط بين الذاكرتين الفردية والجماعية هو مستوى العلاقة بالأقربين (المحيطين) الذين يقعون على مسافات متنوعة في إطار علاقة الذات بالآخر، وتتنوع الأنماط النشطة سلباً وإيجاباً في لعبة التقارب والتباعد هذه، ما يجعل من هذه الصلات صلات دينامية لا تتوقف عن الحركة، وواجب الذاكرة العادلة هنا مختلفٌ عن عملها الحيوي ويتجسد بالطلب منها أن تَعبُر وتَمُرّ بوساطة الحكم العادل من الذات نحو الآخر. هنا نستشعر بالضبط كيف أن الهبوط إلى عمق الإحساس بالذنب يطلب من الذاكرة عدالة استحضار ألم ذاكرة المذنب، فيتفكك قيد الذاكرة لدى مانح الغفران ويتحرر ألمها بمشاركته مع ألم ذاكرة الآخر.

ذاكرتي العادلة ذاكرتي السعيدة
أحمل جرحي الوجودي وأعيه، لكن لم أكن أعي أنّي أحمل أداة ردمه، أعرفُ الآن أنّ اللين الباقي رغم الأوزار التي حمّلتني إياها واقعة الوجود حيث أنا في مكاني وزمني إنما هو موجود بمفعول بداهة الفطرة التي اختارت إنقاذي وسلامي. هذه البداهة أنقذتني بفعل عادل لذاكرتي وعدلها في مضاهاة آلامها مع آلام الآخرين. الذاكرة السعيدة هي التي نُحسن استخدامها، هكذا قال ريكور في وصف الذاكرة التي نتمناها من أجلنا ومن أجل من نحب، وأنا أقول: يا ذاكرتي العادلة، يا ذاكرتي السعيدة.