ليست المرّة الأولى التي تستضيف فيها «مهرجانات بعلبك» فرقاً شبابيّة، من «ماسيف أتاك» (٢٠٠٤) إلى «ديب بوربل» (٢٠٠٩)، وإن استهوت الفرقة الأخيرة أوّلاً «الشباب» الخمسيني المسكون بالحنين… لكن التظاهرة العريقة تغامر السنة بإعطاء هذا الدور الطليعي، لفرقة شبابيّة لبنانيّة لم تنجز أعوامها الخمسة، وقد أفرزت جمهورها، وشقّت طريقها إلى التكريس والنجاح، داخل لبنان أوّلاً، ثم في العالم العربي (القاهرة، تونس)، وأوروبا حيث تتواصل جولتها بعد بعلبك… فرقة «مشروع ليلى» التي يمكن اعتبارها حالة ثقافيّة وموسيقيّة وجماليّة و«أخلاقيّة» (بالمعنى السياسي للكلمة)، ستكون غداً نزيلة «معبد باخوس» في بعلبك.
وتعدنا ببعض الأغنيات الجديدة التي سيتضمّنها ألبومها الثالث في الربيع المقبل. عيون الـ pop، بالمعايير الموسيقيّة الحقيقيّة، في معبد باخوس، من كان يتصوّر؟ فرادة المكان ورمزيّته تزيدان من أهميّة الحدث وخصوصيّته. إنّها ثورة صغيرة في سجل المهرجان العريق الذي اعتاد الجمهور اللبناني والعربي على ارتياده بالسموكن (مجازاً)، للقاء أعمال وأسماء مكرّسة في مختلف مجالات الموسيقى والاستعراض، فإذا به يحتضن الـ love generation بالتيشرتات المزركشة والدجينزات الضيّقة أو المهلهلة. جيل الاحتجاج العربي الخافت، والفردي، والحميم، والمتحرر من الشعارات، في زمن مساءلة السلطة البطريركيّة. بعلبك التقطت اللحظة. وربّما لاح في سمائها غداً، علم المثليّة بألوان قوس القزح، فتنشغل به «صحافة التييرسو» وتنسى الباقي.
هذا هو حامد سنّو وشلّته السعيدة. حامد (مغنّي الفرقة وكاتب كلماتها)، الكمان هايغ بابازيان، والكيبورد أمية ملاعب، والغيتاران فراس أبو فخر وأندريه شديد، والبايس ابراهيم بدر، والدرامز كارل جرجس. معاً يعجنون الأنغام والأصوات، النوطات والحروف، يتخاصمون ويتصالحون، يعملون شهوراً قبل إنتاج هذه الأغنيات المدهشة التي لا تشبه شيئاً في ثقافة الضاد. تلك الجواهر تنحت جماعيّاً بصبر وأناة، لكنّها تحتفظ بحرارتها، وعفويّتها الأولى. أغنيات مزركشة، متعددة الأنماط، هجينة النغمات (بالمعنى الأنبل للهجانة)، جذلى في إيقاعاتها وتركيباتها، ترشح بلغة كل يوم، لغة الحياة، لغة عادية مركّبة، شاعريّة وفجّة، ساذجة ونقديّة، واقعيّة وغرائبيّة، رومنسيّة وساخرة وسرياليّة، تبدو ابنة لحظتها وزمنها… وهنا ربّما يكمن سرّ الصنعة لدى ليلى وأخواتها. «تذكّري كيف كنّا هيك» يقول لها بعد اصطدام الحب على صخور الواقع الطبقي والاجتماعي. «خمنتك شب يا مدموزيل لا تواخذيني/ باردون، باردون»، يغنّي لـ«أم الجاكيت». كلمات «ما بعد زياد ــ رحبانيّة» إذا تجرأنا على المصطلح. تحت راية عمر الزعنّي أحياناً، بعدما تعقّدت الصراعات والأذواق، وبقي التعبير على نقائه مثل الميلوديا الهاربة من كمان هايغ في «فساتين»، أو شطحة حامد الطويلة في نهاية «الحلّ رومنسي»: «تزوجني وإقرأ إنجلز في سريري/ دباح الخروف، قسّم، وزّع ع الجيرة/ الحل رومانسي، بس مش غلط/ حبك كسرة القطاع الخاص بس مش غلط…».
سرّ نجاح الفرقة أيضاً، أنّها تحمل يوتوبيا هذا الجيل الأخلاقي الراقص، وحساسيّته وأذواقه المشرّعة على موسيقى العالم. سرّها أنّها تحمل نكهة خاصة، غير متوقّعة، في المشهد الموسيقي البديل في لبنان. تلقّي أغنياتها يتطلّب التخلّي عن ترسّبات وأفكار مسبقة كثيرة، من هنا الخلاف الحاد الذي ينشب أحياناً حول «مشروع ليلى»، ويتخذ أشكال خناقات سطحيّة من خارج التجربة ودائرة تردداتها. يكفي أن نستعيد صدمة بعض الإعلاميين لدى الإعلان عن برنامج الموسم، والحملة على «مهرجانات بعلبك» لأنّها برمجت «مشروع ليلى» التي بات يدير أعمالها كريم غطاس. في «بيبلوس» قبل صيفين، لم يكن الهجوم عارماً، حين غامر ناجي باز ووضع الفرقة أمام مدرج يتسع للآلاف. لكن «بعلبك» في اللاوعي الجماعي لها مكانة أخرى. بعضهم يريد المهرجان متحفاً للذكريات، برجاً عاجيّاً للأسماء الكبرى، لا تصله الأصوات الجديدة. ولعلّ لجنة «مهرجانات بعلبك الدوليّة» تسجّل أبرز إنجازاتها هذا الموسم، بحفلة «مشروع ليلى» التي نفدت بطاقاتها منذ أيّام. المهرجان العجوز الذي احتضن ليلة الأمس العملاقة جيسي نورمان، من حقّه أيضاً أن يستعيد شبابه حين كان بؤرة للتجريب والاختبار، أن يكسر الحواجز الملبكة التي كادت تكبّل صورته. من واجبه أن ينفتح على الجمهور الجديد، والموسيقى المحليّة البديلة.



«مشروع ليلى»: 20:00 مساء الغد ــ «مهرجانات بعلبك» ــ للاستعلام: 01/999666