«أصالتنا هي جوعنا وأعظم محننا هي شعورنا بأن هذا الجوع ليس مفهوماً فكرياً» (غلوبير روشا ـــ «جمالية الجوع»)ضمن فعالية «نادي السينما» التي تقام في «مكتبة السبيل» (المكتبة العامة لبلدية بيروت) في منطقة الباشورة، عُرض الفيلم الوثائقي «تحت التحت» (72د ــــ إنتاج 2018) للمخرجة اللبنانية سارة قصقص. يعرض الفيلم ثلاث حكايات ثيمتها الفقر ضمن مدينة بيروت، لامرأة لبنانية وعجوز فلسطيني وطفل سوري. من خلال حكاياتهم، تقدم المخرجة وجهاً قاسياً جداً لمدينة بيروت لا يرغب أحد في رؤيته (حسب تعبير المخرجة).
تُسرد الحكايات الثلاث بالتوازي مع بعضها ضمن عناصر سينمائية تجعلنا نربط الحكايات الثلاث مع بعضها، لتبدو الشخصيات عائلة واحدةً ووجهاً كاملاً لمدينة بيروت وحقيقة مطلقة من حقائقها. هكذا، نتجوّل مع أبو حسام سائق سيارة الأجرة ضمن الشوارع أثناء عمله. نرى معالم المدينة العشوائية والفوضوية من خلال وجهة نظر الراكب الذي ينظر إلى الشوارع، ومن خلال وجهة نظر أبو حسام نفسه الذي يُداخل قصصه الشخصية مع علاقته بالمدينة التي تعبر عن هزائم متكررة.


ندخل إلى منزل سامية المتهالك، نعيش بعضاً من حكاياتها مع والدتها التي كانت على شفير العمى، وتحتاج إلى عملية جراحية لا تستطيع سامية تحمل تكاليفها، ونرى القطط التي تعيش معها، تشاركها بكل حب حياتها وطعامها. نخرج إلى الشارع مع الطفل علي الذي هرب من منزله ليختار حياة التشرد، يعيش علي على الشاطئ، يذهب للسباحة باستمرار، يروي حكايته مع صديقه الذي تركه، راغباً بخوض مغامرات لا تنتهي معه، نراه قوياً وحالماً ويعاند الحياة.
تطرح المخرجة عبر الحكايات الثلاث رؤية خاصة عن المكان باختيارها مكان سرد الحكايات: المنزل، الشارع وسيارة الأجرة، لتجمع بذلك تفاصيل المكان مكوّنة صورة كاملة تمكّن المتلقي من استقبال الحكاية بخط متصل مكتمل ذي نهايات مفتوحة كنهايات أصحابها.
لم تكن خصوصية الطرح تقتصر على اختيار الأماكن، بل تجلّى البعد المكاني لرؤية قصقص في الفيلم في اختيار جنسيات الأشخاص، أبو حسام العجوز الفلسطيني وسامية المرأة اللبنانية وعلي الطفل السوري، فتجمع الحكاية ثلاث جنسيات تُعبر بشكل غير مباشر عن بؤس هذه البلدان ككل ومدى ارتباط مصائر بلدان هذه المنطقة بعضها ببعض، كما تُظهر حقيقة المجتمعات المهمّشة ذات الملامح المتشابهة داخل هذه المنطقة. وتعبر بشكل مباشر عن قسوة مدينة بيروت التي نراها في اللقطات السينمائية للفيلم، تحيط الشخصيات بخلفيات مختلفة لصور الزعماء السياسيين وفوضى عشوائية المخيمات ومناظر الأحياء الراقية التي لا تريد أن ترى الصورة المشوّهة من هذه المدينة. تظهر بيروت قاسية جداً لا تفرّق في القسوة ما بين أبنائها وما بين اللاجئين إليها.
كما تقدم الحكاية ثلاث مراحل عمرية مختلفة لتتوسع رؤية قصقص إلى بُعد وجودي زماني يقدم بؤساً مشتركاً ما بين طفل يتطلع إلى المستقبل، وامرأة تعيش الحاضر وعجوز ينتظر النهاية.
لم تكن كاميرا قصقص تقليديةً بتصوير الشخصيات وحياتها. كان التصوير مميزاً من اللحظة الأولى التي يعرض فيها صوراً متسارعة للمدينة التي على وشك أن ندخل إليها. فقد كانت الكاميرا تشكل علاقة صداقة مع الشخوص الذين يتحدّثون بأريحية مثيرة للاهتمام، كأن الكاميرا كانت تنصت إليهم بشغف، تثق بهم ويثقون بها، فهذه الصداقة ما بين الكاميرا وبين الشخوص، قدمت حكاياتهم القاسية بعيداً عن الميلودراما ومن دون تعالٍ أو شفقة، بل كحقيقة قاسية وواضحة مليئة بالحزن واليأس والأمل والحب والحلم. قدّمت يومياتهم بهدوء جعلتنا نرى جوهرهم الإنساني، لا كأنهم مجرد عناصر لبؤس السياسة أو نتيجة من نتائج الهزيمة، وهذا ما جعل من الفيلم متامسكاً وحقيقياً، يُنصف أبطاله قبل أي شخص آخر.
ثلاث حكايات ثيمتها الفقر لامرأة لبنانية وعجوز فلسطيني وطفل سوري


تروي لنا المخرجة مصائر الشخصيات ضمن جلسة حوارية تبعت الفيلم. أبو حسام حاول أن يغير من حياته عبر رغبته في الإقلاع عن الشرب، والدة سامية استطاعت أن تجري العملية لعينيها، والطفل علي قد اختفى. كما أكدت قصقص بأنها تريد لفيلمها أن يكون فعلاً حقيقياً، وليس مجرد فيلم يُعرض في المهرجانات، عبر تقديم صورة لمجتمعات لا يريد أحد أن ينظر إليها، ورغبتها في إمكانية تحصيل دعم لهذه المجتمعات عبر عرض الفيلم على الجهات المعنية بذلك، وطبعاً هذه الرغبة تترافق مع مسؤولية عالية بكيفية طرح حكايات الناس ومعاناتهم، وهذه المسؤولية كانت واضحة في الفيلم.
لكنّ السؤال الأهم متعلق في ظرف عرض الفيلم اليوم في عام 2022، فالشريط كان إنتاج 2018، أي ما قبل «الثورة» والانهيار الاقتصادي وأزمة كورونا وانفجار المرفأ. عرض الفيلم اليوم يتركنا أمام تساؤل مرعب عن حال البلاد وحال هذا المجتمع المهمّش اليوم. تساؤل يُخفي داخله إدراكاً حتمياً للبؤس الموجود في الشارع الأكثر قسوة من أي صورة يمكن لنا أن نتخيّلها.