ما الذي نعرفه عن الثقافة البصرية في باكستان غير تلك الشاحنات والباصات التي نراها في التقارير التلفزيونية تجوب طول البلاد وعرضها، مُظهرة للعيان رسوماً ونقوشاً مخطوطة بعناية على جميع أجزائها، لتصبح كل واحدة منحوتة عملاقة متنقلة، نخاف أن تؤدي بصاحبها إلى العالم الآخر عند أوّل منعطف؟
تتخطى «غاليري Art Factum» هذه الانطباعات الاختزالية لباكستان المُشاهَدة من بعيد، وتقدم تحت عنوان «هيئة، نمط وشكل ـــ اقتفاء الشرق» فرصة للاطلاع على أساليب تشكيلية معاصرة تقرأ الفن الباكستاني من زوايا وانتباهات ذاتية متعددة عبر أعمال: محمد عاطف خان، آصف أحمد وموزوميل روهيل.
«فتحت الطيور الثلاثون أجنحتها من الشوق، وطوت الهواء بحثاً عن السيمرغ، فلما عدّت نفسها في آخر الأمر، رأت أنها هي بنفسها السيمرغ». يلخّص الشاعر محمد أفضل اللاهوري الحكاية الملحمية في «منطق الطير»، حيث تبحث الطيور الثلاثون عن طائر وهمي اسمه «السيمرغ» أو العنقاء، تقع قلعته على جبل قاف، جبل الجبال الذي يطوّق الأرض، فتجوب العالم كله. وحين تفرش أجنحتها في طريق العودة الخائبة، تنظر إلى نفسها، فتجد أنها هي السيمرغ وأنّ السيمرغ هو كل واحد منها وجميعها.
يستقي محمد عاطف خان (1972) مفردات لوحاته من هذه الحكاية الصوفية لفريد الدين العطّار في محاولة لتجسيد المنمنمة من خلال اجتهاد فني، يوائم بين الحساسية الشعبية، وابتكار حقول بصرية مدهشة ومتجاوزة للنمط الكلاسيكي. كمن يواجه إشكالية العلاقة بين الفن والحياة، يعطي خان انطباعاً بأن لوحاته مجزّأة أو مقسمة إلى اثنين: العناصر المزينة مفصولة عن خلفيتها الأصلية وموضوعة في بيئة جديدة في حقل غريب. هذا ما نراه في لوحة «الهجرة 2» حيث يهتم الجزء الأول بالخطوط والعناصر بما يتلاءم مع الطابع الزخرفي أو التزييتي اللصيق بفن المنمنمة. تتشابك عصافير الحكاية في أطياف من الألوان الزاهية تحت سماء غائرة بحشد من السحب. لكن الرائي بعين حريصة، سرعان ما يلاحظ افتقاراً ملحوظاً لعناصر المكان الآني. يستعيض عنه الفنان بأمكنة متوارية في الزمن، غائبة وشبه أسطورية، لأنه لا يحاكي الطبيعة بل قدرتها الخلاقة وطاقتها التوليدية المبدعة للأشكال. في أعلى اللوحة، ستصدم العين صورة حديثة لطائرة ركّاب. وتتفاعل الصورة الخاضعة للذاكرة التاريخية مع ما هو حيّ ونابض لتخلق وحدة موضوعية تبدو حتمية.
وبما يختزنه الفن الباكستاني من ثراء في تصوير الشخصيات الأسطورية وأبطال الملاحم وقصص العشّاق في المخطوطات المغولية القديمة، ينتشل آصف أحمد (1980) المنمنمات من بدائيتها التي ظلت على مدى عصور أسيرة لقوانينها التقليدية ومقتصرة على رسم الهوامش وتزويق الكتب التراثية. تتداخل معها مواد وأنماط فنية أخرى لبناء مشهديات مختلطة، حيث الدمج والربط والنقل تضفي الجمال على الذعر. في لوحته «تشابهات واختلافات» (ألوان مائية على ورق، منمنمات ـــ 54 × 69 سنتم ـــ 2013) يربط وجهاً أنيقاً لشخص يلبس عمامة مع جمجمة بشرية من خلال ثقوب في الصورتين يمرر بينها خيطاً أحمر. هذا التقابل الصعب الذي يصنعه آصف أحمد لا يكتفي بنقل المرئي كما يظهر، ولا يحيلنا إلى مرجعيات في ذاكرتنا البصرية بقدر ما يضعنا أمام إشارات وصور ملتبسة باحتمالات مفتوحة.
في السنوات الأخيرة، مثّل راشد رانا (1968) قيمة فنية استثنائية من خلال مشاريع اتخذت التجريد منهجاً وفرضت حضورها على نطاق واسع. لوحته «السجادة الحمراء» (2007) التي كانت أغلى عمل فني باكستاني يباع في مزاد علني، فتحت له باب متحف «غيميه» الفرنسي حيث قدّم مادة فنية بخلفية نابعة من فلسفة الزِّن ومقاييسها الجمالية التي تحتفي بالنقص كواقع إنساني مقدس. يشير رانا إلى أنّه «في عصر الارتياب هذا، فقدنا ميزة وجود رؤية واحدة إلى العالم. والآن، باتت كل صورة وكل فكرة وكل حقيقة تضم نقيضتها في باطنها».
وصلت تأثيرات رانا الأسلوبية الى موزوميل روهيل (1985) الذي يقدّم في «آرت فاكتوم» أربعة أعمال قائمة على تكوينات حركية قاسية، تمثل تعبيراً مدوّياً عما يمكن أن يصل إليه الفرد المعاصر من حصار ورقابة. ترتكز اللوحات على خلفيات متقشفة تؤسس لبروز عيون كبيرة، مفتوحة على وسعها، تنبت كالأزهار وتحدق في بعضها محاولة الكشف والاكتشاف. هذه النزعة الاختبارية التي تلازم أعمال روهيل، تنطلق من ميل إلى التعرية والمساءلة. يبدو الإنسان الحديث بشكل عام مقهوراً ومكبوتاً، لكنه تصادمي في الوقت عينه، وغير قادر على التعايش والتصالح مع الآخرين. الأشكال المعالجة بقسوة على سطح اللوحة تتحول إلى إرهاصات تجريد تراوح بين العنف والكوميديا.
نحن إذاً على موعد مع نتاج بصري يمضي في مسارات اختبارية عدّة، يراجع مفاصل التحول الأسلوبي في الفن الباكستاني، ويحيط بتنوعه وفرادة حضوره في المشهد التشكيلي المعاصر.

«هيئة، نمط وشكل ـــ اقتفاء الشرق»: حتى 7 آذار (مارس) ــ «غاليري آرت فاكتوم» (الكرنتينا ــ بيروت) ــ للاستعلام: 01/443263




أسلمة الثقافة

المعروف أنّ باكستان شهدت في ظل الحكم العسكري للجنرال محمد ضياء الحق (من 1977 حتى 1988)، برنامجاً لأسلمة البلاد فرض قيوداً تعجيزية على الثقافة. وكان الفن التجريدي يعتبر مخالفاً للشريعة. وحدها كانت مسموحةً فنون الخط واللوحات الطبيعية. بعدما اتخذ الفنانون الهوية والقومية كموضوعات لأعمالهم، سعوا إلى تخطي عبء الماضي في التسعينيات وقدّموا أعمالاً متنوعة المفاهيم والوسائط، حيث الإنسان محور أول وأخير. باهتمام، وصفوا تشريحه النفسي، فطرته، عزلته، تعذيبه الذاتي لنفسه، داخل مساحة إبداعية مشحونة بمدلولات سياسية وثقافية.