غرق المؤتمر الذي نظّمته «الحركة الثقافية ــ انطلياس» في دروس التاريخ والجغرافيا، وخرج بأطروحات مدرسيّة مستهلكة. وحده أحمد بيضون ذكّرنا بواقعنا
زينب مرعي
درس مملّ في التاريخ وكثير من الشعر، هو أفضل ما يمكن قوله عن مؤتمر «بيروت رائدة الحرّيات في الشرق» الذي نظّمته «الحركة الثقافية ـــــ انطلياس» في «دير مار الياس» ضمن احتفالية «بيروت عاصمة عالميّة للكتاب». خلال تقديم الأبحاث عن بيروت في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، ذكّرنا بعض الباحثين بموقع لبنان المميّز جغرافياً، حيث يتجاور البحر والجبل وأهميّة ذلك الموقع من الناحية الاقتصادية والثقافيّة، وما جلبه لهذه المدينة من انفتاح على الشرق والغرب. هذا الموقع، كما التنوّع الطائفي، كانا من أهم الأسباب ـــــ بحسب عدد من المحاضرين ـــــ في صنع المناخ الثقافي المتميّز والحر للعاصمة. لكن الحتميّة الجغرافية لا تكفي طبعاً لتفسير هذه «الظاهرة»، أو وصف بيروت كـ«أعجوبة مشرقيّة». كان للجهد الإنساني أيضاً، دور كبير في هذا التكريس. وكان لحركة الإرساليات وحركة الاستشراق دور في بناء مناخ ثقافي وروحي جديد.
إنّها حرّيات المجتمع المنحطّ إلى ما دون الدولة (أ. بيضون)
ذكّر الأمين العام لـ«الحركة» أنطوان سيف، من جهته، بأنّ السلطنة العثمانية في أواخر القرن التاسع عشر أسهمت في نشر العلم والانفتاح على الغرب، على عكس ما يعتقد بعضهم. ثم جاءت حركة النزوح إلى بيروت، وخصوصاً في 1860، لتؤكّد أهميّة هذه المدينة. تغنّى الكثير من المحاضرين بهذه الحريّة التي تميّز بيروت عن محيطها العربي. الحريّة كانت المحرّك الذي دفع مثلاً الكاتب الفرنكوفوني ألكسندر نجّار، كما أعلن في شهادته، إلى تخصيص رواية عن المدينة هي «رواية بيروت»، بينما تطرّق الناقد والقاص ربيعة أبي فاضل إلى الحركات الفكريّة في القرن العشرين، المتقابلة أحياناً والمتعارضة غالباً في الموقف من الحياة والوجود. «تيار قال بالعروبة في الأدب (الآداب)، وتيار قال بالعراقة السوريّة وبتقاليدها والتراث الأصيل (أنطون سعادة) وتيار تعاطف مع لبنان العلم والحق والخير والجمال (شارل قرم، سعيد عقل، موريس الجميّل)».
إلاّ أنّ الأبحاث التي قُدّمت في المؤتمر افتقرت إلى العمق بالحدّ الأدنى. ودار المؤتمر حول كلمة «حريّة» طوال الوقت، من دون أن يعرف من أي طرف يمسكها حتى يصل بها إلى برّ الأمان، إلى أرض الراهن المزروعة بالألغام. بل من فرط تكرارها، أُفرغت الكلمة من معناها. بعض المحاضرين كعالم الاجتماع نبيل بيهم، أو مدير المكتب الإقليمي لـ«منظمة العفو الدولية» أحمد كرعود، أشاروا بخجل إلى ما اعتبروه نقاطاً سلبيّة في الثقافة اللّبنانية اليوم. أشار الأوّل إلى المناطقيّة التي تحكم لبنان، ونرجسيّة اللّبناني وثقافة الإثراء وثقافة العنف تجاه الآخر. النقطة الأخيرة ركّز عليها كرعود الذي أشار إلى أنّ لبنان عليه أن يعالج مشكلة معاملة الأجانب واللاجئين فيه. كلمات قليلة أتت معارضة كلياً لنهج المؤتمر، وابتعدت عن الطابع الرومانسي الذي اتخذه.
وكانت مداخلة الباحث أحمد بيضون الأعمق والأكثر جديّة، نقض فيها كلّ المداخلات التي كانت تبني على تجذّر الحريّة في بيروت منذ القرن التاسع عشر، إذ رأى بيضون أنّ «حريات بيروت حريات «اجتماعيّة» بأردأ معاني الصفة. هي حرّيات المجتمع المنحطّ إلى ما دون الدولة أو إلى ما قبلها. هي حرية استعصاء التشريع العام. «في بيروت، نواميس صارمة متنافرة، يتحصّل من تنازعها مساحة متآكلة للناموس المشترك وأخرى متنامية للأنوميا (فقدان المعياريّة مفهوم المفهوم الذي بلوره دوركهايم ـــ التحرير) أي اللاناموس». جذر الحرية في بيروت ممتد في تربة اللاناموس هذه. كذلك تساءل السيد هاني فحص في مداخلته عن معنى الحريّة في هذا البلد، عندما يوصف «بالكفر» كلّ من يغرّد خارج سرب طائفته.
في نهاية المؤتمر الذي ترافق مع افتتاح معرض «الطباعة في لبنان: عمّال وحروف»، نتساءل عن الدور الذي يؤدّيه مؤتمر يستكين إلى استعادة الماضي، صارفاً النظر عن مواجهة تحدّيات الحاضر، وتحديداً موضوع الحرّيات. أي تأثير له على الوعي الراهن، وكيف يندرج في سياق الصراعات الفكرية والثقافية المطروحة حالياً؟.