لم يقبل أحد من الأدباء العرب الأحياء أن يحكي عن حبيبته. الحبّ سمعة سيئة للأحياء. وحدهم الموتى تركوا آثاراً وراءهم عن عشق انتهى بالفراق وخلّدته الرسائل
نوال العلي
«فدوى يا قطعة من نفسي. كانت رسالتك الأخيرة أجمل رسائلك، أتدرين لماذا؟ لأنها حملت إليّ صورة، والصورة نقلت إليّ ابتسامة حلوة. الصورة يا فدوى صورتك والبسمة بنت شفتيك. ولقد نظرت إلى هذه المولودة وهي تستقبل الحياة على مهد ثغرك». أقرأ رسائل الحب بين الشاعرة فدوى طوقان والصحافي أنور المعداوي، ثم أقرأ قصص أدباء وأديبات تبادلوا الحب. أتساءل كيف أفصلك عن نفسي هنا؟ أكتب لك في عيد العشاق عن عشاق آخرين، أنتقي لك من كلام الحب مثل عروس تختار بين الخواتم. كنت طالبة حين قرأت «صفحات مجهولة في الأدب العربي المعاصر» للناقد المصري رجاء النقّاش. توقعت أنّه كتاب في تاريخ الأدب، لأجد قصة حب لم يدر أحد بأوجاعها إلى أن نشر النقّاش رسائل العاشقين.
لا أخفيك أنني ضحكت حين قرأت آخر مقابلة لفدوى قبل أن تموت. كانت تتنصل من الحب كمن يردّ عن نفسه سمعة سيئة. إذا كان للعشاق سمعة سيئة، فلنحافظ عليها. حصل النقّاش من فدوى نفسها على 17 رسالة مؤرخة بين نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات، لكنه «لم يخبرني أنه سيكتب عن أنور وعنّي. قال إنّه سيستنير بالرسائل ليكتب عن صديقه. لم أرض عن كتاب رجاء لأنه ليس مناسباً أن يكتب حكايات كهذه. أنا نادمة على معرفتي بأنور. كان من بناء وهمي شكلته من خيالي، ولاحقاً اكتشفت أنه مغاير لما رسمته في مخيلتي».
لا نعرف كيف اكتشفت فدوى أنه لا يمتّ لخيالها بصلة، فهما لم يلتقيا قط، لقد تعارف الاثنان بعدما أرسلت هي خطاباً تشكره على مقالة كتبها عنها. وبعد أخذ ورد، عرض عليها أن ينشر لها ديواناً. أرسلت الشاعرة قصائدها ووضع لها الصحافي عنوان «وحدي مع الأيام». وتطورت الرسائل إلى علاقة حب. تقول فدوى له في إحدى الرسائل: «أملي من حبك هو الحبّ ذاته». هل كانت فدوى بهذه العبارة تعبّر عن حاجتها لأن تكون محبوبة فقط. ولو من بعيد؟ ولا سيما أنها عاشت في أسرة محافظة ضيّقت عليها الخناق وحرمتها متابعة تعليمها.
هل تريد أن تعرف باقي الحكاية؟ توفي المعداوي سنة 1965. وأرسل لها قبل أن يموت: «يا فدوى، أنا واثق من أنك لم تنسي هذا الإنسان الذي يكتب إليك، لأنه هو نفسه لم يستطع أن ينساك منذ أن قال لك ذات يوم وداعاً». بخلاف فدوى، لن تنتظر الروائية كوليت خوري أن ينشر أحد رسائلها هي ونزار قباني، ستفعل بنفسها كما قالت في أكثر من مناسبة. «كان نزار شاعر المرأة. أما أنا، فكنت المرأة الوحيدة التي أحبّها». ارتبطت كوليت ونزار بقصة حب ومشروع زواج خططا له قبل أن تكتب رواية «أيام معه» (1959) بعامين. وكانت الرواية عن قصتها هي ونزار الذي ظلّ يحلم بالسفر: «كان طموحه كبيراً، فتخليت عنه. أحسست بأنه لا يعطيني الحب نفسه الذي أقدمه له‏، فقلت له إنني مسافرة‏». غادرت هي إلى أميركا وصاحب «أشهد أن لا امرأة إلا أنت» إلى الصين. لكنه «عاد إليّ وأحبني كثيراً فلم أعد أبادله الحب‏. ‏كنت في البداية على استعداد لتغيير ديانتي لأجل حبّي، لكن عشق نزار لنفسه كان أكبر من حبّه لي». بعد رحيل نزار، فتحت كوليت الخطابات التي أرسلها إليها، «27‏ خطاباً كتبها لي ولم أقرأها ولو فعلت آنذاك لكنت عدت إليه‏».
ليست مي زيادة حب جبران خليل جبران الوحيد. ارتبط جبران بالشاعرة الأميركية جوزفين بيبادي (صدرت مراسلاتهما بالعربية عن «دار كتب» للمؤلف سليمان مجاعص). كانت جوزفين تلقّبه بالفتى السوري، وقد ظلت في باله مذ التقيا في معرض للصور عام 1898، واكتفى كل منهما بالتحديق والابتسام للآخر. من يقرأ رسائل جبران إلى جوزفين يلمس روحاً مخمورة بالعشق، جبران الذي لم يخاطب مي زيادة بـ«يا حبيبتي». كان هائماً بجوزفين التي تزوجت وغادرت إلى ألمانيا لاحقاً. ويبدو أن الفترة التي التقى فيها الاثنان كانت مرهقة لكليهما بسبب الفقر، والمشاكل العائلية، وفقدان كل منهما لأحد من ذويه. ولم يكن بمقدور أحدهما مدّ يد العون للآخر: «حبيبتي، إني أتحسّس أتعابك وأعجز عن إسعافك».
وكذلك هي حال مي زيادة، فلا تقلّ رسائلها للعقّاد عاطفة عن تلك التي تملأ صفحات رسائلها لجبران. على العكس، فقد تكون للعقاد حظوة الحضور والوجود وحضور صالونها الأدبي. كتب العقاد روايته «سارة» لها، ونظم قصائد عنها أيضاً، وتبادلا أشواقاً كبيرة حين سافرت عام 1925 إلى روما. تقول له مي: «لا أستطيع أن أصف لك شعوري حين قرأت القصيدة التي أرسلتها لي. وحسبي أن أقول لك إن ما تشعر به نحوي هو نفس ما أشعر به... وقد خشيت أن أفاتحك بما أشعر به نحوك، الحياء منعني. وعرفت لماذا لا تميل إلى جبران. لا تحسب أني اتهمك بالغيرة من جبران. هو لم يرني ولعله لن يراني. سأعود قريباً إلى مصر، وستجمعنا زيارات وجلسات أفضي لك فيها بما يضمه وجداني، لدي الكثير مما سأقوله لك».

ليس صحيحاً ما تقوله فيروز. نحن لن نترك الحب، سنأخذ الحب والأسى معاً


في إحدى رسائلها، كتبت فدوى طوقان «أملي من حبك هو الحبّ ذاته»

كانت قصص الحب تدور وفق منطق فيه شيء من الغبن السماوي، كان «أ» يحبّ «ب»، و«ب» يحب «ج»، و«ج» يحب «أ». وجود تلك النساء الجميلات والمثقفات والمتحررات جعل منهن أيقونات ومعشوقات. صالون مي كان سبباً بأن يغرم الكثيرون فيها، مثل الرافعي، وأنطون جميّل، وولي الدين يكن. ونتذكر حالة غادة السمان التي كانت مثل كوكب يدور حوله العشاق. يكفي أن تنظر إلى صورة غادة على غلاف كتابها الذي نشرت فيه رسائل غسان كنفاني إليها. كانت نصوص غادة المتمردة تشبه جينزها الضيق، وجسدها الفتان، والشعر الفاحم المرفوع والحرن كذيل حصان. الاختلاف كان يجذب الأدباء والمثقفين الذين أحبوا المختلفات وتزوجوا العاديات.
لكن للشاعر أمل دنقل والصحافية الصغيرة عبلة الرويني خصوصية من ذلك. بدأت علاقتهما في لقاء صحافي في مقهى «ريش» عام 1975. تزوجت الصبيّة البورجوازية الشاعر النحيل الذي لا يملك سوى بنطلون أسود ممزق. تقول عبلة: «كان هذا الثقب الناتج من احتراق سيجارة يطل من فوق الركبة، وكان أمل يحاول مداراته دائماً عن عيوني البورجوازية، بينما كنت أبحث دائماً عنه، وأنا أكاد أعتذر عن ملابسي الأنيقة».
وزاد من صعوبة ما جمع أمل وعبلة مرض دنقل بالسرطان. كتبت عبلة عن حبيبها سيرته في «الجنوبي» تقول: «كان الحب في داخله، وكان التصاقي الشديد به يُشعره كثيراً بالقيد والتوتر والعبء النفسي أحياناً، ولعل مردّ ذلك إلى إحساسه العميق الدائم بأنه لم يمنحني راحة، أو أن الحياة ذاتها لم تمنحنا استقراراً».
وأخيراً يا حبيبي، لم يقبل أحد من العشاق الأدباء العرب الأحياء أن يحكي عن حبيبته ولا امرأة عن حبيبها. ما أجمل الموتى. الحب سمعة عطرة للموتى وفضيحة للأحياء. مع ذلك، ليس صحيحاً ما تقوله فيروز. نحن لن نترك الحب، سنأخذ الحب والأسى معاً، سنحصل على الـ Full Package شئنا أو أبينا. والآن سيصلك مني SMS بمناسبة الفالنتاين، فلم يعد بمقدورنا أن نكون رجعيين في الحبّ، كأن أرسل لك مغلفاً مختوماً بقبلة من فمي، وأدعو أن يختم فمي قلبك، فلا تقامر به بعدي.


من قصص الحبّ المثليّة، ما جمع التشكيلية المكسيكية فريدا كالو (أوتوبورتريه) والمغنية المكسيكية الأيقونة شافيلا فارغاس. كانت حياة فريدا وشافيلا تعيسة لم يشفها الفن، عاشت فريدا زاوجاً تعيساً ولم تخف علاقتها بشافيلا التي ما زالت على قيد الحياة. وقد غنّت وفاءً لحبيبتها في فيلم «فريدا». وفي مذكرات كتبتها كالو عن حياتها الجنسية مقاطع معنونة بـ«اللذة من الطاولة إلى السرير» وصفت فيها لقاءاتها مع شافيلا.