مرّتين غصّ المعمار رفعة الجادردجي بدموعه أمس. واقفاً على منصة مسرح قصر الأونيسكو في بيروت، لم يستطع أن يتقبّل غياب صديقه عاصم سلام عن الصف الأول بين الحضور. «لم أتوقع في يوم من الأيام أن أحضر مثل هذا الحفل»، قال وغصّ بالبكاء. حاول أن يبرّر. شرح: «أنا حزين ومتألم»، وغص ّمجدّداً فيما دمعت عيون الكثيرين في القاعة. الرجل، ذو الشعر الأبيض، الذي صعد على مهل درج المسرح لإلقاء كلمته، كان حزيناً فعلاً. بعد 48 عاماً من صداقة، نسجت خلال نصف ساعة في بغداد، يصعب تقبّل الخسارة. فكيف إذا كان الراحل «رجلاً حرّاً» كما وصفه الجادرجي. رجل «أدرك أن حضارة الإنسان سيرورة يصنعها فكره ويداه... والعمارة التي تؤلّف البيئة حيث يعيش ويفكر».
هي العمارة التي احتفى بها أصدقاء عاصم سلام أمس، تلبية لدعوة من «اتحاد المهندسين اللبنانيين». كانوا كلّما ذكروا كلمة «معمار» أشعروا المستمع بوقع الكلمة. هذه ليست مهنة عادية، إنها «مهنة مصطفاة» يقول رئيس «هيئة المعماريين العرب» إميل العكرا من دون غرور. هي «ليس ترفاً» كما قال الجادرجي بل «ضرورة إنسانية من غيرها تصبح الحياة مملة، وتتسم بالعبث». هذا ما قاله سلام أكثر من مرة. وكان صوته واضحاً أمس وهو يعيده خلال عرض فيلم يتضمن بعض مواقفه «العمارة هي التي تعطيك هويتك وثقافتك ومرجعيتك وهي التي تعالج الأمور الحياتية للمجتمع». أما المعمار فهو «مسؤول يضع التصاميم التي تعيش لقرون من الزمن وهو يؤثر في المجتمع الذي يقيم فيه. لا يقتصر دور المعمار على إقامة خريطة بل هو مرتبط بالبيئة والتنظيم المدني وله دور قيادي، وإذا لم يفهم هذا الدور فهو يسيء إلى المجتمع الذي يقيم فيه» وفق ما قاله العام الفائت مرة لطلاب معهد الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية. ولهذا لم يكن سلام يشجع الطلاب على الدخول إلى العمارة «وكنا حاولنا أن نصدر قانوناً يفرض على الراغبين بالانتساب سنوات من الاختبار لكننا لم ننجح، والطلاب المتخرّجون يتسجلون في النقابة ويوقعون الرخص في اليوم التالي ولا ادري كيف يملكون الجرأة لفعل ذلك».. لأن «معضلة العمارة في لبنان ليست المواجهة مع الحداثة بقدر ما هي مواجهة بين مدارس غنية في تراثها ودورها المدني وعقلانية عمارة آنية شاء أصحابها أن تكون فقيرة في فكرها وتافهة في تعبيرها وتائهة في تحديد دورها المدني والإبداعي» والكلام لسلام أيضاً أمام طلاب الفنون الجميلة عام 2002.
عدد كبير من الحاضرين في قصر الأونيسكو فهموا العمارة على هذا النحو، ولهذا كان شعورهم بالخسارة كبيراً. بالنسبة إلى العكرا، كان سلام «بروميثيوس» العمارة اللبنانية. الإله اليوناني الذي تمرّد على باقي الآلهة وساعد البشر، وفق ما تقول الأسطورة. وسلام «ترهّب في سبيل خير البشر، وصارع في سبيل حقوق الناس» يقول العكرا، لكن مأساة هذا «البيك» أنه «صدّق بأن الكلمة يمكن أن تفعل في الواقع، لينتهي إلى ما انتهى إليه الكثيرون منا: الكلمة لا تفعل من دون سياسة».
خسر سلام معركة المحافظة على التراث، رغم المعركة التي خاضها من أجل المحافظة على قلب بيروت، وعلى نسيجها الاجتماعي، وحرصه أعلى أن تبقى مكاناً موحداً للعاصمة والوطن كما قال المعمار رهيف فياض خلال تلاوته لكلمة الأمين العام لـ«اتحاد المهندسين العرب» عادل الحديثي.
لكن على الرغم من ذلك «لا بد أن يظهر جيل جديد يعمل على نهج سلام» قال المتحدّثون أمس. كيف لا، وهو الذي «أحبّ العمارة وكان استاذاً ورائداً في تأسيس كليات العمارة عندما كان هذا الفن مجهولاً في مجتمعنا وتقاليدنا الهندسية» يقول رئيس «اتحاد المهندسين اللبنانيين»، النقيب إيلي بصيبص.
وكان تحدّث في الاحتفال نجل سلام الكبير علي الذي شكر الحضور، كما أقيم معرض يتضمّن أبرز أعماله في القاعة الجنوبية للقصر، ووزّع عدد من مجلة المهندس خصّص
للراحل.