لم يتطلب الأمر طويل عناء كي يثبت المعنيون في «جميعة الكشاف المسلم في لبنان»، أنهم كانوا أول من أتى بالكشاف إلى لبنان والمنطقة العربية. لديهم الوثائق التي تتحدث عن ذلك بصراحة. بدأت الحكاية في العام 1910، وتحديداً من مدرسة دار العلوم في منطقة رأس بيروت. يومها حاول بعض أصحاب المدارس، ومنهم الشيخ محمد توفيق الهبري، تحديث المنهج التعليمي عبر إرسال موفدين إلى الدول الأوروبية للاطلاع على المناهج التعليمية هناك بهدف تطوير المناهج المعتمدة في لبنان، وذلك أسوة بتلك المتبعة في أوروبا وخاصة في بريطانيا.
أوكل الهبري إلى ناظر المدرسة عبد الجبار خيري، وهو هندي الأصل، السفر إلى بريطانيا لهذا الغرض. وصل خيري إلى بريطانيا، وكانت قد تأسست أول حركة كشفية في العالم في لندن على يد اللورد بادن باول في العام 1908. وفي أثناء تعرفه الى المنهجية التعليمية في بريطانيا، تعرّف أيضاً إلى بادن باول والحركة الكشفية وأهدافها ونشاطاتها. عاد خيري الى بيروت، وأخبر الشيخ الهبري بما رآه. أعجب الأخير بالفكرة فقرر إنشاء حركة كشفية مماثلة لنظيرتها البريطانية، إلا أنه بعد اطلاعه على مبادئ الحركة الكشفية هناك، أضاف بنوداً جديدة الى مبادئ الكشاف المسلم تتلاءم والعادات والتقاليد الإسلامية من دون أن يمسّ بالمبادئ العامة للكشاف التي تسري في كل زمان ومكان، كالتي تقول بأن على الكشاف أن يكون صادقاً ومعطاءً ونافعاً يعتمد عليه في الملمات وغيرها.
لم يتحول اسم الحركة الكشفية إلى «الكشاف المسلم في لبنان وسوريا» إلا بعد الانتداب الفرنسي على لبنان وسوريا. فقد أطلق عليه فور إنشائه عام 1912، كما يشير المفوض العام للكشاف المسلم خضر باشي، اسم «الكشاف العثماني» الذي التحق به العديد من أبناء العائلات البيروتية العريقة الغنية منها والفقيرة على السواء. هم أنفسهم من تبوأ بعضهم مع الوقت مراكز داخل هذه الحركة الكشفية، فأخذوا على عاتقهم بناء حركات كشفية في ما كان يسمى حينها ببلاد الشام. هكذا ذهب كل من المفوّضين الأوّلين محيي الدين النصولي وبهاء الدين الطباع الى سوريا وفلسطين والأردن والعراق ومصر. ما إن يحلّ واحدهم في إحدى البلدات حتى يتحلق الأهالي من حوله. يسألونه عن زيّه الكشفي الغريب وعن العصا التي في يده، فيجيبهم عن أسئلتهم ويشرح لهم سبب قدومه. «لم يكن يغادر قبل أن يؤسس نواة حركة كشفية ملقناً العناصر مبادئ الكشاف وأهدافه» يقول باشي.
قبل انتهاء الحرب العالمية الاولى وخروج العثمانيين من بلاد الشام، ذهب محيي الدين النصولي إلى المكتب الكشفي الدولي الذي تأسس عام 1907 في لندن، ليأتي باعتراف دولي بالحركة الكشفية في لبنان، حيث أضحى الكشاف المسلم في لبنان وسوريا بعدها عضواً في الحركة الكشفية الدولية، وكذلك تكوين الاقليم الكشفي العربي. الأمر الذي مكّنه بحسب باشي، بعد تسلّمه مركزاً من جمعية المقاصد الاسلامية في منطقة حرج بيروت في العام 1922 (اليوم مدرسة بيت الاطفال)، من «قوننة الحركة الكشفية عبر منحه الموافقة على تأسيس كل الحركات الكشفية في لبنان والعالم العربي».
عرفت تلك الفترة ظهوراً لحركات كشفية لبنانية قبل تكوين الاتحاد الكشفي اللبناني سنة 1929 ثم في العام 1939. وقد شملت، إضافة الى الكشاف المسلم، كشافة مدرسة بيروت الأهلية، كشافة الجامعة الاميركية في بيروت وكشافة اسرائيل، التي طالب المفوض الأول مصطفى فتح الله بشطبها من الاتحاد الكشفي بعد الكشف عن اتصالات كان يقوم بها أفراد منها باليهود الوافدين الى فلسطين قبل النكبة بأعوام قليلة، وهذا ما حصل.
أقامت الجمعية أولى المخيمات الكشفية التي جمعت كل الحركات الكشفية العربية في الغابة الشمالية في بلدة حمانا وذلك في سنة 1930، ثم في الزبداني في سوريا في العام 1934 والذي حضره أكثر من 2500 عنصر كشفي. لم يطمئن الانتداب الفرنسي إلى فكرة الكشاف، وقد عمد وفق باشي، الى سحب الترخيص من الاتحاد الكشفي اللبناني مرتين.
شكّل الكشاف برأي باشي، متنفساً للأهالي الذين كان أولادهم أول من تعلم مبادئ الدفاع المدني من إسعاف وإنقاذ، فخاضوا تجارب إسعاف وإغاثة وإنقاذ كثيرة في الكوارث والحروب التي عاشها لبنان.. بدءاً بالزلزال الذي ضرب لبنان في العام 1956 الى غرق الباخرة «شومبينيون» واللجوء الفلسطيني، والحرب الأهلية والاجتياحات الاسرائيلية وصولاً الى حرب تموز. قسم من هؤلاء العناصر كوّنوا في ما ما بعد حزب النجادة، الذي أسهم بحسب باشي في حركة الاستقلال عن الانتداب.
يكشف باشي أن قرارات تعيين المفوضين والقادة داخل الحركات الكشفية العربية ظلّت حتى العام 1936 تخرج من مكتب جمعية الكشاف المسلم في لبنان، التي ضمت خلال مائة عام عناصر أصبحوا اقتصاديين وسياسيين معروفين كرئيس الوزراء الراحل شفيق الوزان والرئيس السابق فؤاد السنيورة.
لا يرى باشي أن الكشاف مجرد حركة ترفيهية بل مدرسة تعلم عناصرها الحسّ الوطني، ويشير في الوقت عينه الى أن الجمعية التي ينتسب إليها عناصر من أكثر من 75 قرية لبنانية، تعاني اليوم مشاكل مالية خاصة أن لا مورد مالياً لها وهذا ممنوع قانوناً، فتعتمد على التبرعات والاشتراكات المتواضعة.



«تهديد» للانتداب


لم يستسغ الانتداب الفرنسي فكرة انضمام شباب يافع إلى حركة منظّمة لها قوانينها ومبادئها، خصوصاً أن عدد المنتسبين اليها كان يتزايد يوماً بعد يوم. فقد توسم فيها تهديداً له بعدما وصل عددهم إلى 50 ألف كشفي، لذا عمد مرتين إلى سحب الترخيص من الاتحاد الكشفي اللبناني.. حتى أن الفرنسيين، عند وصول محيي الدين النصولي إلى بيروت بعد إقامته في الهند وقتاً لا بأس به لتأسيس حركة كشفية هناك، قطعوا التيار الكهربائي عن بيروت كي لا يتمكن البيارتة من استقباله، إلا أنهم فاجأوا الفرنسيين بوقوفهم طوابير على جوانب الطريق حاملين المشاعل من المرفأ إلى حرج بيروت في انتظاره.