على الرغم من نقاط ضعفه وعثراته العديدة، استطاع تحرك هيئة التنسيق النقابية المستمر، من أجل تصحيح الأجور لموظفي القطاع العام والمعلمين في المدارس الخاصة والرسمية، ليس فقط إبراز عقم وفشل السياسات الحكومية والخيارات التي اتبعتها، وهشاشة النظام السياسي اللبناني القائم على أساس تحالف طبقي – طائفي مأزوم أصلاً. بل كشف أيضاً الموقف المتخاذل لمختلف القوى المدنية التقدمية على اختلاف مواقعها وانتماءاتها الحزبية أو الفكرية.
لم تستدع معركة انخرط فيها عشرات الآلاف من الموظفين والمعلمين أي مبادرة من هذه القوى، ما عدا بعض البيانات المؤيدة مطالب الهيئة. لكنه، يا للعجب، الموقف نفسه الذي يشترك فيه حتى أصحاب المصارف وممثلو الكتل النيابية التي رفضت إقرار هذه المطالب على الرغم من الاقرار بأحقيتها. لم تهبّ القوى المدنية التقدمية إلى تشكيل إطار سياسي يتولى عملية التصدي للهجوم الواسع والمتعدد الوسائل والمستويات الذي شنّه أصحاب الرساميل وممثلوهم السياسيون من نواب ووزراء لتحميل قيادة الهيئة وزر أزمة كان وما زال عموم الشعب اللبناني من ضحاياها. الحقيقة أن هذا الموقف ليس جديداً، لقد تكرر الأمر عينه عندما صرفت شركة «سبينس» قادة العمل النقابي فيها واعتدت عليهم بالوسائل كافة وحرمت العاملين والعاملات فيها من حقهم الدستوري في إنشاء نقابة تدافع عن مصالحهم. لم تتحرك هذه القوى دفاعاً عن العمال ضد إدارة متسلطة. حتى الناشطون ممن تحركوا ورفعوا أصواتهم تضامناً مع موظفي الشركة وعمالها لم يسلموا من جبروت هذه الشركة.
تنطلق معظم
هذه القوى من فرضية أن لا عمال في لبنان

تنطلق معظم هذه القوى في تعاملها مع التحركات العمالية من فرضية أن لا عمال في لبنان، بسبب تركيبة الاقتصاد الريعية وغياب العمال الصناعيين الذين يشكلون لبّ الحركة العمالية. وتسلّم أيضاً بفرضية أن جماهير العمال ليسوا إلا أفراداً طائفيين يقادون بشكل غريزي من قبل زعاماتهم، مستندين في ذلك إلى بنية النظام السياسي الطائفي في لبنان. وتخلط هذه القوى بشكل واضح بين الحركة العمالية (كحركة غير مؤطرة تنظيمياً أو سياسياً) والتنظيم النقابي (الاتحاد العمالي العام وباقي الاتحادات النقابية)، وتحاول التعمية على مسؤوليتها المباشرة في الوصول إلى هذا الواقع.
لقد أثبتت التحركات العمالية في السنوات الماضية (عمال سبينس، المياومون، عمال شركة الميكانيك، عمال شركة كونداس وغيرهم) خطأ هذه الافتراضات، وبيّنت بشكل واضح أن الحركة العمالية لا تزال حية، على الرغم من هزال تحركاتها وضعف بنيتها التنظيمية والبرامجية والسياسية. فهذه التحرّكات أعادت التأكيد أن الطبقة العاملة في لبنان، مثل باقي طبقات المجتمع، ليست متجانسة، ولكن لها مصالح طبقية مشتركة، آنية وتاريخية على السواء. ووحدة المصالح تلك متشابكة مع اختلاف المصالح الآنية الخاصة (حسب المهن، والمجموعات، والمناطق، والحرف، الخ) ، ووجود مستويات وعي متفاوتة في ما بينها. وأتى صمود هيئة التنسيق النقابية وقيادتها ليؤكد إمكانية بناء قوة اجتماعية عابرة للطوائف والمناطق والايديولوجيات وعلى أساس المصلحة الموضوعية، ما أعاد طرح السؤال الأساسي أمام جميع القوى المدنية التقدمية: هل يمكن بناء دولة مدنية حديثة في لبنان من دون وجود حركة نقابية ديمقراطية ومستقلة تعبّر بشكل حقيقي عن تطلعات العمال والأجراء؟
إن الشرط الأساسي لبناء هذه الحركة هو تحرير إرادة العمال في لبنان من كافة القيود التي تمنعهم من تشكيل نقاباتهم بموجب «علم وخبر»، تماماً كالجمعيات الاهلية ومساعدتهم على بناء منظماتهم عبر مدّهم بالخبرات التنظيمية وتمكينهم من التواصل بعضهم مع بعض والتضامن الفعلي معهم وعلى جميع المستويات. إن بناء حركة نقابية مناضلة وقادرة على التعبئة العمالية وذات برنامج سياسي وطني أصبح حاجة موضوعية لا بد منها للخروج من نفق الأزمات الدورية في النظام السياسي اللبناني وللضغط من أجل إصلاح ديمقراطي في السياسات الاقتصادية – الاجتماعية، ما يفتح أفقاً رحباً من أجل بناء مجتمع العدالة.
لقد أُبعدت الطبقة العاملة اللبنانية عن المشاركة الفعلية في إقرار السياسات الوطنية منذ الاستقلال، حيث صدر قانون العمل اللبناني مقيّداً حقها الاصيل في تشكيل نقاباتها، كذلك أقرّت القوانين التي تفصل بين العاملين في القطاعين العام والخاص، وشكل عدم وجود قانون موحد أو مشترك لجميع الأجراء يتعلق بالحماية الاجتماعية والصحية الارضية المادية الفعلية لمنع تجاوز الانقسامات الطائفية والمناطقية، وهو ما فاقم من ضعف بنيتها الواهنة أصلاً. وما إقرار قانون الضمان الاجتماعي ليطال أقساماً محددة من العمال والاجراء، أو السماح لمعلمي المدارس الحكومية وموظفي الإدارات بالعمل النقابي تحت عنوان الروابط، إلا التعبير عن سياسة الابعاد. ما يصدم هنا هو تعامل القوى التقدمية وإقرارها بهذا الواقع وغيابها عن دعم الجسم العمالي، وليس النقابي، الذي نجح تحالف النظام في استتباعه والسيطرة عليه. ويشكل ابتعاد هذه القوى عن دعم وتعزيز الحركة العمالية في بناء كوادر ذات تجربة وخبرة عائقاً أساسياً، ليس في بناء وحدة العمال وبلورة توجه سياسي لهم، بل خياراً يصبّ في إعادة تجديد النظام اللبناني ويدعم سياسات السلطة المعادية للعمال.
خلاصة القول، إن بناء حركة نقابية ديمقراطية ومستقلة أمر ممكن، وأصبح من المهمات الوطنية التي على جميع القوى المدنية التقدمية المساهمة فيها. لقد أضعف تغييب العمال ومنظماتهم حركة التغيير الديمقراطي في لبنان. إن الهدف الأول يجب أن ينصبّ على تحرير إرادة العمال من القيود وانتزاع الاعتراف بنقاباتهم التي يجب أن يؤسّسوها بأنفسهم. كذلك يجب الاستفادة من خبرات القيادات النقابية المجربة لدى المعلمين وموظفي القطاع العام وغيرهم من القيادات النقابية الشابة التي برزت أخيراً من أجل تنظيم العمال بطرق جديدة، والعمل على تطوير برامج عملها من المطالب الجزئية إلى بلورة خيارات وسياسات اقتصادية واجتماعية وتنموية بديلة. لذا، علينا العمل لإلغاء القوانين المقيدة للحق النقابي، والتوسع في بناء منظمات نقابية ديمقراطية وممثلة، تناضل مع العمال وتستمد شرعيتها منهم. فهي الطريقة الوحيدة لكسر القوانين المعادية للحقوق العمالية. كذلك علينا العمل على بناء التضامن الفعلي في ما بين العمال على قاعدة مصالحهم المشتركة أولاً وتمتين ارتباطهم مع الشرائح الاجتماعية الأخرى. ويشكل إقرار قانون للحماية الاجتماعية والتغطية الصحية الشاملة وتصحيح الأجور أولوية تضمن استقرار أوضاع الطبقة العاملة بما يسمح لها بالانخراط الفعال في عملية التغيير الديمقراطي وتفتح الأفق واسعاً لدور عمالي يتجاوز المطالب الآنية نحو الخيارات الاقتصادية والاجتماعية والتنموية.