ممَّ يعاني مستشفى بيروت الحكومي الجامعي؟ هل أزمته تكمن في وجود هدر وفساد، أم هي أزمة مالية بحتة؟ أم خليط من الاثنين؟ هل هي أزمة نظام استشفائي فاسد؟ ما مشكلة «مستشفى الفقراء»، الذي يئنّ بصمت على مدى أسابيع وتنفجر مشاكله كل بضعة أشهر؟
صرخات الموظفين

قبل أيام انفجرت، مجدداً، أزمة مستشفى بيروت الحكومي الجامعي. عَلَت صرخات الموظفين لأنهم لن يتقاضوا رواتبهم كاملة. سريعاً، اندفع وزير الصحة وائل أبو فاعور لإعلان موقف مما يجري: «الإقفال أو حلّ جذريّ». لا أحد يشكّك في قدرة أبو فاعور على التنفيذ، لكن التشكيك يحوم حول مقاربة هذه الخيارات. هل الإقفال خيار؟ كيف يقدّم وزير الصحة مقاربة من هذا النوع؟ جاءه الردّ أمس على لسان موظفي المستشفى، الذين رفعوا لافتة كتبوا عليها: «حلّ جذري، حلّ جذري». أصوات الموظفين كانت تطالب بسداد رواتبهم كاملة «والعمل على إيجاد آلية طارئة وسريعة تضمن قبض رواتب ومستحقات الموظفين الشهرية من دون أي تأخير». وأضافوا إلى هذا الأمر بضعة مطالب صرّح عنها منسق لجنة الموظفين عبد عيسى، في مؤتمر صحافي عقد أمس، وأبرزها «تحقيق شفاف في الأسباب التي آلت وفي فترة وجيزة إلى تراكم المديونية وصولاً إلى الانهيار التام. إيجاد آلية قانونية لإخضاعنا لنظام تعاونية موظفي الدولة، وإيجاد آلية طارئة وسريعة تضمن حصول المستشفى على المواد الأولية الأساسية الطبية، التي يحتاج إليها للاستمرار في أداء دوره. ويضاف إلى ذلك، إعادة النظر في عقود الصيانة على الأجهزة الطبية من دون أن تعمل».

من يحمي الفقراء؟

لكل جهة في المستشفى حلّها الجذري الخاص، لكن معالجات أبو فاعور (المنتظرة) ومن سبقه في وزارة الصحة، لا تكشف عن توجهات السلطة العامة في التعامل مع القطاع الاستشفائي، بوصفه خدمة مدفوعة من الخزينة العامة. فهل من اللائق أن تنفجر قصّة عدم سداد رواتب العاملين في المستشفى كل فترة؟ وهل يعقل أن تبلغ ديون المورّدين 50 مليار ليرة؟ وهل يعقل تداول قصص الفساد والهدر في المستشفى من دون أن يكشف عن أي منها؟ من هم المستفيدون من هذا الوضع؟
70% من مدخول المستشفى الحكومي مصدره مرضى
وزارة الصحة
ثمة الكثير من هذه الأسئلة المتصلة بتشغيل وإدارة مستشفى بيروت الحكومي الجامعي، التي لا إجابة نهائية وواضحة عنها بعد. السلطات الرسمية، سواء كانت وزارة الصحة العامة أو الأجهزة الرقابية المعنية، لم تقدّم هذه الإجابات، ولم يتطوّع أحد لتقديمها سوى الطرفين المتضررين مما يحصل؛ الأول يمثّل موظفي المستشفى، الذين يعانون عدم انتظام رواتبهم، والطرف الثاني يمثّل الإدارة التي تنفجر بوجهها بدلاً من معركة واحدة، معارك بالجملة. المرضى الذين «لا صوت ولا قدرة لهم» هم الخاسر الأكبر. يخسرون لأن مستشفى بيروت الحكومي الجامعي أكبر مستشفى للفقراء، 50% من مرضاه يأتون من أحياء بيروت الإدارية، التي يعشّش فيها الفقر المزمن، ومن الضاحية الجنوبية المتروكة للفوضى، أما الـ50% الباقية، فهي تأتي من الشمال والجنوب والبقاع، وأضيف إليها اليوم النازحون السوريون. 70% من الدخل الذي يحققه المستشفى مصدره المرضى الذين يعالجون على نفقة وزارة الصحة العامة. أما عدد المرضى، فقد بلغ 15 ألفاً في عام 2013، بعدما ارتفع في عام 2010 إلى 20 ألفاً. انخفاض الأعداد له سبب معروف، وفق رئيس مجلس إدارة المستشفى وسيم الوزان «لم يعد بإمكان المستشفى تحمّل الارتفاع المتزايد في عجزه السنوي البالغ 8 مليارات ليرة. اضطررنا تحت وطأة الضغط إلى أن نخفض عدد الأسرّة من 400 سرير إلى 270 سريراً، وقد خسرنا عدداً من الممرضين والممرضات الذين استقطبوا للعمل في مستشفيات منافسة، أو هاجروا إلى خارج لبنان».

مشكلة بنيوية

هذا الوضع ليس سوى جزء أساسي من مشكلة متشعّبة العناصر. «فالأمور ليست وردية في المستشفى، ولا يمكن نكران ما يحصل من أزمة مالية بنيوية يشهدها المستشفى منذ سنوات طويلة، «لكنها ليست وحدها سبب الأزمة، فهناك ضغوط من نوع ثانٍ متعلقة بالنظام اللبناني»، على حدّ تعبير الوزان. ما أراد الوزان قوله، هو أن السلطة السياسية، أو الفاعلين سياسياً ومناطقياً يضيّقون الخناق على المستشفى، في سبيل توقيع عقود توريد مع بعض المؤسسات والشركات، أو في سبيل معالجة عدد كبير من المرضى بصورة مجانية، أو من أجل إغراقه في الأعباء المالية لمنعه من منافسة المستشفيات الخاصة الجامعية. تساق هذه الضغوط تحت وطأة حاجة المستشفى إلى سدّ العجز المالي. وبنتيجة هذه الضغوط، أصبح المستشفى يرزح تحت أعباء من نوع مختلف؛ «نقص في المستلزمات الطبية، نقص في الموارد، نقص في الصيانة، تقلص القدرة على سداد الرواتب، مبالغات في الروايات المتداولة عن المرضى... أصبحنا اليوم رهينة سداد ثمن المستلزمات الطبية نقداً للموردين الذين تغاضوا، مرحلياً، عن المطالبة بالديون المتراكمة والبالغة 50 مليار ليرة مقابل الشراء النقدي. هذا الأمر اسّس لمشكلة مالية بنيوية، فتقلّصت قدرة المستشفى على سداد الرواتب... إلى أن أصبحنا اليوم أمام خيارين: دفع كامل الرواتب وتقليص قدراتنا على شراء اللوازم الطبية، أي ما يقودنا نحو التوقف القسري عن العمل. والخيار الثاني هو أن ندفع جزءاً من الرواتب مقابل الاستمرار» يقول الوزان. ويضيف أن الوزير السابق للصحة علي حسن خليل، كان قد وقّع سلفة بقيمة 8 مليارات ليرة لدفع الرواتب عن الأشهر الثلاثة الأولى من السنة الجارية «وقد دفعنا كامل أول شهرين، أي كانون الثاني وشباط، ثم تبيّن لنا أن حاجتنا تفرض علينا أن ندفع 80% من رواتب شهر آذار من أجل إبقاء استمرارية المستشفى، على أن ندفع الباقي عندما نستكمل عملية تحصيل الفواتير. سدّدنا هذه السنة ما قيمته 8.7 مليارات ليرة رواتب، أي أكثر من قيمة السلفة التي حصلنا عليها».
مشهد مستشفى بيروت الحكومي لا يكتمل من دون النظر إلى المنافسين، عندها يتبيّن أن 70% من مرضى المستشفيات الجامعية الخاصة في بيروت من حاملي بوالص التأمين من شركات القطاع الخاص، ومن طبقات وسطى ومقتدرة، قادرة على تسديد الفواتير من جيبها الخاص.
الإجابات المتصلة بتطبيق السياسات الصحية الحكومية وآليات إسقاطها على المستشفيات الحكومية والخاصة على حدّ سواء، غائبة بصورة كليّة. فهذا المستشفى يفترض أنه مستشفى جامعي، أي مستشفى تعليمي، وبالتالي ليس دوره تجارياً كما هو دور باقي الجامعات، وبالتالي، فإن الخطيئة تكمن في اعتباره مؤسسة تجارية عليها أن تحقق توازناً مالياً، بل المطلوب أن يكون هذا المستشفى العنوان الذي يلجأ إليه الفقراء، الذين تسحقهم المستشفيات الخاصة عندما ترفض استقبالهم، ويموتون على أبوابها. كلفة مستشفى بيروت الحكومي الجامعي اقل بثلاثة أضعاف من كلفة مستشفى الجامعة الأميركية، لكن مصيبته أنه يخضع لضغوط السياسة، وأنّ التوازن المالي مفقود منذ ولادته.