برزت في السنوات الأخيرة مشكلة المتعاقدين في الإدارات العامة لا سيما في قطاع التعليم الأساسي الرسمي، واتخذت بعداً تصاعدياً أدى في بعض الأحيان إلى الصدام مع القوى الأمنية المولجة الحفاظ على سلمية التحركات. فما الذي يدعو المدرّس المتعاقد إلى النزول إلى الشارع وقطع الطرقات وتحدّي القوى الأمنية؟يعود ملف التعاقد في المدارس إلى سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي. إلاّ أنها كانت محدودة لأن الدولة كانت في النهاية تدخل المدرّسين المتعاقدين ملاك وزارة التربية بعد دورات وامتحانات تكاد تكون شكلية. إلى أن حدث الانفجار الكبير في أعداد المدرسين المتعاقدين بعد وقف عمل دور المعلمين عام 2001 وصدور القانون 442/2002 الذي نص على إجراء مباراة محصورة للمدرسين (لم تجرَ إلاّ في عام 2009)، وحصر التعاقد بحملة الإجازات التعليمية أو الجامعية (القانون 344/2001)، ما دفع بالكثيرين إلى الاعتماد على مردود التعاقد المالي لتأمين لقمة العيش بحدها الأدنى، من دون إغفال استغلال السياسيين لعدم تطبيق القانون 442 وقيامهم بحشو المدارس الرسمية بكل ذي حاجة يحمل إجازة. وظل التضخم في أعداد المتعاقدين حتى نظمت مباراة محصورة بهم، فنجح 3547 مدرساً من أصل 8127 تقدموا للمباراة. والرسوب الكبير هنا له أسباب عدة أهمها عدم وضوح مواد الامتحان لا سيما في مرحلة الروضات التي رسب فيها ما يزيد على ألف معلمة، والبعض منهن متفوقات في مجال الطفولة المبكرة.
هذا الرسوب وضع المدرّسين أمام واقع جديد، فباتوا مهددين في لقمة عيشهم لأن القانون 442 منع التعاقد مع الراسبين، فيما معظمهم لا تشملهم أية تغطية صحية ولا يتقاضون بدلات نقل، والتعاقد مع الكثير منهم يخضع لمزاجية إدارة المدرسة. ويضاف إلى ذلك كله التلويح بالمباراة المفتوحة وهم المكويّون بنار المباراة المحصورة.
وجد هؤلاء أنفسهم أمام تحدٍ اعتبروه وجودياً. فاندفعوا في تحرك استمر بين عامي 2010 و2012 تنوّع بين اعتصام واضراب يوم واضراب مفتوح ومسيرات وتحريك للرأي العام، وأسفر عن استمرار المتعاقدين في تعاقدهم وعدم الاستغناء عنهم. كما تم سحب مشروع قانون المباراة المفتوحة، ونجحوا في رفع أجر الساعة إلى 14 ألف ليرة لبنانية (أصبح اليوم 20 ألفاً بعد إقرار سلسلة الرتب والرواتب). إلاّ أن المشكلة الأساس لم تحل، بل تفاقمت مع دخول متعاقدين جدد وظهور بدعة جديدة، بعد إقفال باب التعاقد، تفوّقت على بدعة التعاقد وهي بدعة «المستعان بهم»، فما الحل؟
القانون يمنع دخول الملاك إلاّ عبر مباريات مجلس الخدمة المدنية، بينما مطلب المتعاقدين المتمثل بإجراء دورات تدريبية وتثبيت كل الناجحين فيها جعلهم يطرقون أبواب السياسيين الذين لا يستطيعون تقديم إلاّ الكلام المعسول والوعود، لأن أي مشروع قانون يخالف القانون 442 ويسعى للتثبيت بعيداً عن مباريات مجلس الخدمة المدنية سيفتح موضوع المناصفة، ما سيؤدي إلى تعطيله.
الطريق المسدود هو ما وصل إليه المدرسون المتعاقدون. القانون لم ينصفهم والمباراة صدمتهم والكثير من السياسيين يتاجرون بهم وتركيبة لبنان لا تسمح برفع الظلم عنهم، ولا حل لديهم سوى العودة إلى الشارع لتحصيل حقوقهم.
أما الرأي العام فقد يجد أنّ قضيتهم قضية حق لأنها ترتبط بلقمة العيش والاستقرار الوظيفي، وقد يجد أنها قضية غير عادلة لأن من حق المتعلمين الحصول على المدرسين الكفوئين عبر مجلس الخدمة المدنية. لكن السؤال: هل مجلس الخدمة ومبارياته بالطريقة التي تجرى هي المعبر المناسب لاختيار المدرسين الأكفأ؟
* أمين لجنة الدراسات والإحصاء في رابطة معلمي التعليم الأساسي