إدارة المعلومات ليست ضمن الاختصاصات الأولى التي ينصحك بها الأهل والأقارب، وليست واحداً من الأدوار التي تحلم بها مع أترابك حين كنتم تلعبون بيت بيوت، أقصد أنك في لحظة التخرج لن تكون "مهندزاً" كما تُلفَظ بالعامية، ولا حكيماً، أي طبيباً. هو اختصاص أبعد من الأفكار البديهية والصورة التقليدية والمملة و... المكلفة جداً عن المستقبل.المعلومة اليوم هي السلعة الأغلى، هي المادة الأولية للسياسات التي تتبعها الدول والحكومات وتسعى إلى امتلاكها مهما كان الثمن. قد يخال البعض أن ثورة الإنترنت والاتصالات أفقدت المعلومة قيمتها، لكونها قد أصبحت في متناول الجميع لقاء بدلات زهيدة ومجهود بسيط. بينما الحقيقة أن الإنترنت فتحت المجال أمام فيض المعلومات التي لا مصدر موثوقاً لها ولا دقة.
اليوم، الكثير من التحقيق ضروري لفصل المعلومات الصالحة عن المضللة، بالإضافة إلى انعدام القدرة على حجب هذه الأخيرة ومنع انتشارها بين الجمهور المتلقي، الذي غالباً ما يكون كسولاً في التحقق منها قبل الاستخدام!
المعلومات هي المادة الأولية للسياسات والتحكم

في الحروب القديمة، كان المُغيرون يستهدفون دور العبادة التي كانت في الحقيقة المكان الوحيد لحفظ اللفائف. في حروب أحدث، أصبحت المكتبات والمراكز الأثرية هدفاً ضرورياً، في محاولة صريحة لطمر ماضي المكان وتسويته، من حيث الذاكرة، بالأرض تمهيداً لزرع ما يشاء المنتصر. هذا ما حصل لبغداد هولاكو مثلاً. هذا ما حصل لمكتبة الإسكندرية التي نُهبت وحُرقت مرات عدّة قبل الميلاد وبعده. وهذا ما حصل لمكتبات الأنبار في العراق، حيث دُمّر أكثر من 100 ألف كتاب ومخطوطة نادرة (23-2-2015)، فضلاً عن آثار تدمر التي شُوّهت، من دون ذكر ما فعله الاستعمار البريطاني بفلسطين حين ادعى أنها خالية من الناس، تمهيداً لزرع إسرائيل التي لا تزال حتى اليوم تفبرك الأدلة وتزيّف التاريخ.
في كل مرة يُظهر لنا التاريخ خطورة المعلومات وأهميتها، وما فعله جوليان أسانج أخيراً، كما إدوارد سنودن، وهما مناضلان من طراز العصر الرقمي، دليل على تصاعد أهمية المعلومات والوثائق. فالأول ضحّى بحريته لفضح سياسة الولايات المتحدة، بدءاً من حروبها في العراق وعملياتها ضد المدنيين، ونشر سجلاتها عن حرب أفغانستان، فضلاً عن ملفات سجن غوانتانامو وغيره. وعلى خطى مشابهة، سرّب عميل CIA السابق إدوارد سنودن وثائق بالغة الأهمية والخطورة من مكاتب وكالة الأمن القومي، ما أدّى إلى ردود فعل جنونية من قبل بلاده التي اتهمته بالتجسس والخيانة.
إن امتلاك الوثائق يعني امتلاك الحقوق والقدرة على إثبات ذلك. امتلاك الوثائق يعني امتلاك المعرفة، وهنا تأتي أهمية اختصاص إدارة المعلومات، فهو يتمحور حول قسمين عريضين: التوثيق وعلم المكتبات.
أما التوثيق، فهو قسم محبَّب لمجاله الواسع في التطبيق، من مراكز المعلومات إلى دور الأبحاث والوسائل الإعلامية وأقسام إنتاج البيانات وتحليلها، بالإضافة إلى مؤسسات الأرشيف. والأرشيف يعني حسن إدارة المعلومات مهما كان وعاؤها واعتماد وسائل حفظ سليمة تضمن استرجاعها بصورة لائقة ووقت قليل، مهما طال زمن الحفظ.
يسمح التوثيق بمتابعة المعلومات واللحاق بها من لحظة ولادتها إلى استعمالها الأخير، وتختلف وتيرة العمل وسرعته بحسب مكان ممارسة العمل. فإن كان في وسائل الإعلام، فلا بد أن يكون سريعاً مواكباً للأحداث اليومية، كذلك لناحية تلبية الطلبات من مواد مختلفة بشكل فوري. وإن كان في مراكز الأبحاث والدراسات، فلا بد أن يسير وفق الدراسات الضرورية "على الطلب".
أما علم المكتبات، فلم يعد ترتيباً للبطاقات في الأدراج ولا صفاً للكتب على الرفوف. يقتضي التخصص المكتبي اليوم إعداد سياسات تطوير لمقتنيات المكتبة ودراسة حاجات الباحثين ومتابعة إصدارات الدوريات، فضلاً عن مواد المصادر الرقمية والبوابات الإلكترونية وقواعد المعلومات المتخصصة.
ظهرت في العقدين الأخيرين وظيفة "أمين المكتبة المتخصص" الذي، إضافة إلى حيازته شهادة علوم المكتبات، يمتاز أيضاً باختصاص علمي معين، مثلاً أمين مكتبة حقوقية يكون أيضاً قد درس المحاماة، وأمين المكتبة الطبية له دراية بعلوم الطب!
على الرغم من أهمية الأرشيف وضرورة غربلة المعلومات، بالإضافة إلى وجود حاجة ملحّة لقيام المكتبات المتخصصة والعامة، يبقى اختصاص إدارة المعلومات اختصاصاً مهمّشاً مقابل باقي الاختصاصات، من ناحية التقدير أولاً وفرص العمل المناسبة ثانياً.