في دورته الـ 14 التي أقيمت قبل شهرين، دعاني «مهرجان الفيلم القصير» للمشاركة في فعالياته كرئيس للجنة التحكيم بجوار نخبة من صناع السينما اللبنانية: الممثلة جوليا قصار، المخرج أسد فولدكار، مديرة التصوير موريل أبو الروس، والمخرج العراقي محمد الدراجي. كانت هذه المرة الأولى التي أحضرُ فيها المهرجان، الذي ينظمه «نادي لكل الناس» في بيروت، وإن لم تكن المرة الأولى التي أسمع فيها عنه وعن النشاطات المتميزة التي ينظمها النادي في مجالات تنظيم العروض السينمائية والأرشفة وترميم الأفلام على مدار عقدين منذ تأسيسه 1998. في كلمة قصيرة لجمهور المهرجان، ذكرتُ أن عام 1998 يرتبط في ذاكرتي بأول عرض لمجموعة من الأفلام القصيرة المصوّرة بكاميرا رقمية في المعهد السويسري في القاهرة وإطلاق مصطلح «السينما المستقلة» على هذا النوع من الأفلام للمرة الأولى، وبتأسيس كيان مماثل لـ«نادي لكل الناس» في القاهرة باسم «سمات لإنتاج وتوزيع الأفلام المستقلة» التي كان لي شرف الانضمام إليها وتحرير أول مجلة متخصصة في السينما المستقلة في العالم العربي باسم «نظرة».
ذكرت أيضاً أننا احتفلنا منذ فترة بالدورة العشرين من «مهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام الوثائقية والقصيرة» الذي أتولّى إدارته حالياً. وكنت قد عملتُ فيه للمرّة الأولى عام 2000 مع الناقد الراحل علي أبو شادي. وهو المهرجان الذي كثيراً ما عرض أفلاماً ونظّم برامج خاصة للسينما اللبنانية المستقلة الوثائقية والقصيرة، واستضاف كثيرين من صنّاعها الذين ربطَت بينهم وزملائهم المصريين علاقات صداقة وتعاون متنوعة.
كلّ من حركتي السينما المستقلة في لبنان والقاهرة، بدأتا بالتزامن في نهاية تسعينيات القرن الماضي لتشابه الظروف العامة (ظهور الفضائيات والكاميرات الرقمية وانتشار الكمبيوتر). والظروف الخاصة بالبلدين (صعود أجيال شابة تواكب الثورة الرقمية وتتعامل معها وترغب في التعبير عن نفسها بمزيد من الحرية والاستقلالية).
خلال هذه السنوات، مرّت في نهرَي هاتين الحركتين مياه كثيرة، وتقلّبَت موجات هادئة وعنيفة، اختفت أسماء ولمعت أسماء جديدة. ومن الظواهر التي انتشرت في كلا البلدين إنشاء مدارس أهلية لتعليم السينما وافتتاح أقسام لتعليم السينما في معظم الجامعات داخل كلّيات الفنون والإعلام والآداب وبعض أقسام العلوم الإنسانية الأخرى. ومع زيادة عدد الأفلام التي تُنتَج سنوياً، ظهرت بعض المراكز والجمعيات التي تهتم بعرض هذه الأفلام. كما ظهرت بعض المهرجانات الصغيرة في عدد من المدن. «مهرجان الفيلم القصير» الذي ينظّمه «نادي لكل الناس» أحد أقدم هذه المهرجانات، وكان مخصصاً لمشاريع الطلبة اللبنانين قبل أن يتوسّع لضم أفلام مستقلة من كل العالم العربي، وهو حالياً يتكوّن من مسابقة عامة تضم داخلها مسابقة الطلبة.
من خلال مشاهدة 30 فيلماً ضمتها مسابقة «مهرجان الفيلم القصير» هذا العام، من بينها 14 فيلماً للطلبة، هناك بعض الانطباعات والملاحظات التي يمكن اختصارها في ما يلي:
أوّل ما يلفت الانتباه هو ارتفاع مستوى الأعمال الطلّابية تقنياً مقارنة بمثيلتها منذ سنوات مثلاً، خاصّة في ما يتعلق بعنصر التصوير والمونتاج والتمثيل. بعض صناع هذه الأفلام يمتلكون بالفعل الموهبة والإمكانيات التي تؤهّلهم للاحتراف، وإذا جاز لي أن أخصّ بعضهم بالاسم، فمنهم زاهر جريديني مخرج فيلم «طفر»، والياس فريفر مخرج ومصور فيلم «أربعة عشر»، وتينا ماريا جبري مخرجة ومصورة فيلم «أفكار»، وليوناردو باسيل مخرج فيلم «بداية النهاية» الذي فاز بجائزة أفضل وثائقي، ومارك سلامة مخرج «طعمي السمكات»، وغابي ضاهر مخرج «كسوف»، والأخيران فازا بجائزة أفضل عمل طلابي مناصفة.
الأمر الثاني يتعلّق بالموضوعات التي تناقشها الأعمال، وتعكس هموم هذا الجيل. وقد لاحظتُ أن كثيراً منها يتناول العلاقة بالآباء والأمهات، كما نجد في «الرجال هو الصياد» لليلى بسمة، الذي يدور حول شاب تداهمه خيالات بقتل أبيه، وهي نفس فكرة الفيلم المصري «قد يموت الأب في النهاية» للمخرج عبد الرحمن سالم. موضوع آخر يتواتر في عدد من الأفلام هو العلاقات العاطفية التي تتأزّم لأسباب غامضة، يمكن اعتبارها «ثقافية» أو «سياسية»، كما نجد في «نقلة» للميا غندور، و«نمضي» لغنى ضو. في الفيلمين، تتعقّد العلاقة بين زوجين شابين في الأول، وخطيبين شابين في الثاني، من دون وجود مشكلة مباشرة ملموسة. ويبدو أن السبب هو الحساسية المختلفة لأجيال جديدة من النساء يشعرن بالتناقض بين الاستقلالية ومتطلبات العلاقة مع الجنس الآخر.
الهموم العامة، السياسية والاجتماعية حاضرة بقوة في عدد من الأفلام سواء في أعمال الطلبة أو المستقلين الأكبر سناً وأكثر خبرة. ثلاثة أفلام فلسطينية هي «رجل يغرق» لمهدي فليفل و«العبور» لأمين نايفة، و«بنبونة» لراكان ماسي، تتناول الشأن الفلسطيني من زوايا مختلفة: المهاجرون غير الشرعيون، الحدود المغلقة والحصار المفروض على الأراضي المحتلة، المعتقلون والكيفية التي يواصلون بها المقاومة والتحايل على الأسر، إلى جانب أفلام خليجية تتناول التطرف والقتل باسم الدين... أما «سيدة» للمصرية نسمة زعزوع، فهو أحد الأعمال القليلة التي تتناول الفقر والبؤس الذي تعانيه أم تبحث عن علاج ابنها بأسلوب واقعي. وعلى العكس، يتناول «الخدم» لمروان خنيصر الصراع الطبقي من زاوية «بوليسية»، ترشحه للتحول إلى فيلم طويل جماهيري.
الملحوظة الأخيرة تتعلق بالأساليب الفنية المستخدمة وهي تعكس بشكل عام تأثراً واضحاً بالسينما الأميركية الهوليودية، حيث تميل للإفراط في التعبير والحوار، مع استثناءات بارزة مثل «كسوف» (غابي ضاهر) أو iamamiwhoami (رودريغ سعد) التجريبي المتأثر بالسينما الطليعية، أو التونسي «أسترا» (نضال غويغا) الذي يحمل أيضاً روحاً أوروبية واضحة.