في مطلع عام 2019 كان الانهيار ماثلاً أمام قوى السلطة والمعنيين في وزارة المال ومصرف لبنان. يومها أُعدّت خطّة لإعادة الهيكلة كشف عنها وزير المال علي حسن خليل، ثم تراجع عنها. هكذا بدأت أولى إرهاصات الأزمة، التي تحوّلت في منتصف عام 2019 إلى تحرّك في سعر الصرف أكبر من الهوامش المحدّدة، إلى أن أصدر مصرف لبنان تعميماً يحافظ على سعر صرف بقيمة 1500 ليرة لاستيراد المازوت والبنزين والأدوية والقمح والمستلزمات الطبية، ثم انفجر الشارع في 17 تشرين الأول 2019، وأقفلت المصارف 12 يوم عمل متتالية، وبدأت رحلة ما بعد الانهيار. انهيار في قيمة الليرة والقدرات الشرائية، وتبخّر المدّخرات، وتدنّي قيم الثروة بكل أشكالها... ثم تخلّف الدولة عن السداد، والتعاقد مع مستشار مالي «لازار». أثناء ذلك كان المطلب عقداً اجتماعياً واقتصادياً جديداً، لكن السلطة قلبت جدول الأعمال وأطلقت مرحلة التكيّف من خلال «إنفاق 40 مليار دولار» وفق تقديرات شربل نحاس، للإيحاء بأن النموذج قابل للإصلاح، لكن ما حصل هو أنه جرى استصلاح نسخة رديئة من هذا النموذج وتحويلها إلى نمط حياة تتسع فيه الفروقات الطبقية بشكل حادّ وشرس من دون أي مشروع مقابل لهذا التغوّل. الآن كل همّ السلطة الترويج بأن نمط الحياة هذا هو نموذج صالح للعيش، بشرط الاستقرار بعيداً عن حسابات الخسائر والنهوض والازدهار. هذه الإجابات التي يقدّمها نحاس، الوزير السابق ورئيس حركة مواطنون ومواطنات
مضى على الأزمة أربع سنوات تخلّلها الكثير من التغيرات. فقد تمكنت السلطة من تغيير جدول الأعمال الذي طرحته الجماهير في 17 تشرين الأول 2019، ثم بدأ المجتمع يتكيّف. كيف حصل ذلك؟
- في الفترة الأولى كانت السلطة، بأشكالها المختلفة، في حالة إرباك. هكذا أتت حكومة حسّان دياب، وبعض وزرائه قالوها: كنّا تحت ضغط الجماهير. وفي ذلك الوقت، واكبت السلطة حفلة «الدعم» التي أقامها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، وانبرى وزير الاقتصاد راوول نعمة وزملاؤه في ترويجها وترتيبها.

أرشيف (مروان طحطح)

هذا السياق، أفسح المجال لعناوين متصلة بالودائع: «الودائع مصونة»، «الودائع مقدسة»، وبعدها اندفعت الحكومة إلى إعلان التوقف عن الدفع. كان عمر هذه المرحلة نحو أربعة أشهر، وبعدها استقدمت الحكومة المستشار المالي لازار لمساعدتها على وضع خطّة مالية، انقلبت عليها السلطة وتمظهر الانقلاب في حدثين: عندما حطّت في القصر الجمهوري طائرة هيليكوبتر تحمل رئيس مجلس النواب نبيه بري، ثم تداعي لجنة المال والموازنة لدرس الخطة. زيارة بري كانت المفصل الأساسي للانقلاب على جدول الأعمال.
في هذا الوقت برزت ظاهرتان: الهجرة، استقدام الأموال. بالنسبة إلى الهجرة ليس لدينا سوى تقديرات لكن يفترض أنها بلغت مستويات جنونية وبات واضحاً أن تحويلات المغتربين في ازدياد وأن عدد المقيمين في انخفاض. أما بالنسبة إلى استقدام الأموال، فقد جرى تنظيم الأمر شيئاً فشيئاً عبر الأحزاب والجيش والمنظمات الدينية والمدنية وغيرهم من الذين حصلوا على الأموال من الخارج. ومشكلة استقدام الأموال أنها تأتي رغم تعطّل الأدوات التي كانت تقلب التحويلات المالية إلى ما يبدو كأنها مداخيل، أي النظام المصرفي والمالية العامة، لذا يجري الاستعاضة عن هاتين القناتين بواحد: التقديمات العينية، من الكرتونة إلى الدعم المدرسي وصناديق الدعم الجامعية وصولاً إلى برامج الفقر في وزارة الشؤون الاجتماعية وغيرها.
تغيير جدول الأعمال حدث في الجزء الثاني من حكومة حسان دياب. ولغاية الآن، يظهر بوضوح أن مخزون الدولارات الذي يسمى زوراً وبهتاناً احتياطياً، استُهلك من نحو 30 مليار دولار إلى أقل من 9 مليارات اليوم. بكل راحة بال يمكن القول إنه جرى ضخّ 20 مليار دولار من هذا المخزون، وفوقها تحويلات مغتربين والدولارات المدّخرة في المنازل والآتية من الخارج، بقيمة تقدر بنحو 4 مليارات دولار سنوياً، ويضاف أيضاً الأموال التي أتت من الأميركيين والفرنسيين وقطر وغيرهم بما لا تقل قيمته الإجمالية عن 7 مليارات دولار... أي ما لا يقل مجموعه عن 40 مليار دولار. هذه الأموال ضُخّت في الداخل، وأمنت حصول التكيّف.

هل تعبّر مظاهر التكيّف عن تماسك السلطة التي اتخذت مجموعة كبيرة من الإجراءات في هذا الاتجاه مثل الاتفاق الأولي مع صندوق النقد الدولي، أو الانتقال من الدعم السلعي إلى دعم العملة وسائر الإجراءات؟
- إذا نظرنا إلى السياق الذي أعدّت فيه خطّة لازار، يمكن القول إنها حصلت وسط تخبّط في السلطة. والمسألة الأساسية في هذا المحور هي توزيع الخسائر. يختلف الأمر إذا كانت الانطلاقة مبنية على أساس الاعتراف بالخسائر وتوزيعها لإنتاج نموذج جديد يعتمد على أموال جاهزة بقيمة 20 مليار دولار ومتدفّقة بقيمة مماثلة، إذ إن هذا يعني أن المبالغ المتوافرة لا تستخدم في عملية التكيف، بل من أجل إعادة إطلاق الاقتصاد. بعبارة أخرى، إذا جرى الإقرار بنهاية الرهان الذي استمرّ وتأجّل انهياره بالألاعيب لمدة 30 سنة، فإن الانتقال إلى نموذج آخر يتطلب أمرين: توزيع الخسائر، وتحديد وجهة استخدام ما تبقّى من أموال أو ما يؤمل أن يصل منها. لكن الواقع جاء نقيضاً بالمطلق، إذ لم يحصل توزيع خسائر كنهج سياسي معلن، بل حصل بالواقع، ثم استخدمت الأموال المقدّرة بنحو 40 مليار دولار من أجل ترتيب مرحلة انتقالية. وإلى الآن، ما زال أعضاء في الدولة المزعومة، يتحدّثون عن ودائع مقدّسة وضمان حدّ أدنى للوديعة بقيمة 100 ألف دولار. هؤلاء ليسوا «مجاديب»، فهم يقولون هذا الكلام ويستعملون هذه العبارات تحديداً رغم أنهم يعلمون أن المصارف مفلسة، غير أنهم مقتنعون بأن قسماً من الناس على استعداد لتصديق كلامهم وعباراتهم.
وبما أنهم يتحدّثون بهذا الكلام، وينفقون القسم الأكبر من المخزون ومن التدفقات، فإنهم فعلياً أعادوا اكتساب جدول الأعمال.

تمكنت السلطة من تأمين التكيّف بعد تنظيم التدفقات وتوجيهها إلى شرائح أو قطاعات معينة؟
- بالطبع، هدفهم ألا يكون هناك مؤسّسات أو قطاعات «تفرط». لذا، جرى التركيز على ذلك. وهذا يفسّر الكثير من التدفقات الخارجية المباشرة إلى القوى العسكرية مثلاً، أو إلى بعض فئات القطاع العام دوناً عن غيرهم، أو إلى مؤسّسات وقطاعات وشرائح اجتماعية أخرى. بعكس ذلك، كانوا سيفقدون القدرة على فرض التكيّف، ولا سيما إذا اعتمدوا صيغة الخطط المرسومة مثل خطّة لازار أو خطة صندوق النقد الدولي التي ستلزمهم بمواقف معينة مثل صرف الموظفين من القطاع العام، زيادة الضرائب، خصخصة بعض المؤسّسات، إلغاء الدعم... فمثل هذه الالتزامات ستُفقد الزعيم في لبنان، القدرة على إرساء التكيّف. وهنا يجب الانتباه إلى اللازمة التي تبرز اليوم: «ستأتي الأموال وبتظبط». فما يقال... اتفاق إيران والسعودية: نقشت، ستأتي الأموال. اتفاق ترسيم الحدود واستخراج الغاز: نقشت، ستأتي الأموال. حتى إن الحديث الدائر حول اللامركزية هو كلام تقوله فئة في المجتمع لفئة أخرى وتذكرها بأنه لا يمكن التعايش معها بينما «نحن» بإمكاننا منفردين إعادة العلاقات مع دول الخليج وإعادة دفق الأموال منها إلينا... عنوان كل ما يدور الآن هو: الأموال ستأتي. إنما لم تظهر تتمة لهذه العبارة، ولو للحظة، عن استخدامات هذه الأموال، بل يركّز الخطاب على حفظ الودائع، والكهرباء... هذه معايير نجاحهم في التكيّف.

ما الذي يفرق في عمل هذا النموذج طالما أنه اعتاد على تبديد الأموال. كل هذه التدفقات الآتية من تحويلات المغتربين أو تلك التي ستأتي من صندوق النقد ومن غيره، أو تلك التي ما زالت ضمن مخزون مصرف لبنان، تستخدم ضمن هدف استعادة النموذج السابق؟
- قبل أن تفرط، كانت الأموال تُستقدم عبر الجهاز المصرفي ويجري توزيعها وفق أدوات وقنوات مختلفة منها القروض وعبرها إلى القطاعات ومن أبرزها تجارة الأراضي. أما الآن، فالهجرة تعمل بينما الجهاز المصرفي وقنوات التوزيع المعهودة معطّلة. لذا، جرى استبدال القنوات التقليدية بالتوزيع العيني المسيّس والمطيّف والمرتبط بأطراف خارجية «على عينك يا تاجر». في السابق، لم تكن هناك ضرورة أن يعلم أصحاب المداخيل أن ثلثي دخلهم يأتي من الخارج، ولم يعلموا أيضاً أن هذا المصدر يؤمّن، بشكل عام، تثبيت سعر الصرف، وأنه يؤدي إلى ارتفاع أسعار العقارات... المداخيل لم تكن ترتبط بالمصدر الخارجي مباشرة وعلنياً كما هو عليه الحال الآن. وهذا ينطبق على الجيش والرهبنة وحزب الله وسائر الأحزاب والمنظمات التي ترتبط بمصادر خارجية في أميركا وفرنسا وإيران وغيرها. وأكثر من ذلك، تأسّست أجواء بناء على ذلك، تشير إلى أن حظوظ الخروج من الأزمة قوية وتزداد، والبرهان على ذلك يكمن في الاتفاق النفطي، واتفاق السعودية وإيران، و«بكرا بظبطها ماكرون وقطر»، وأخبار من هذا النوع. عملياً، تسعى السلطة إلى نقلة تعتمدها كنهج منقّح للنموذج الذي كان قائماً.

ماذا تعني بنموذج منقّح؟
- المرحلة الانتقالية التي تسعى إليها السلطة، محورها ألا تواجه أسباب ما حصل، بل البحث عن تقديم شكل جديد للنموذج السابق، أو ما يمكن تسميته «إدارة الرداءة». بعد إنفاق 20 مليار دولار من المخزون، وبعد الهجرة بأعداد هائلة، وإغلاق الشركات، وفرط القطاع العام... ما تبقّى هو إدارة ما تبقّى. لا يكمن الأمر في استعادة النموذج «الباهر» الذي كان موجوداً، ولا النظر بأسبابه، بل إن التكيّف مع إدارة الرداءة في إطار صيغة منقّحة أبشع مما كان قائماً. ومن علامات ذلك الهجرة، والارتباط السياسي المباشر بمصادر التمويل الخارجية بتلويناتها المختلفة، وصولاً إلى الإخراج الشكلي في انتخاب رئيس وتأليف حكومة وسواهما. من لديه ارتباط مع الخارج ستكون أوضاعه مرتاحة، ومن ليس لديه ارتباط سيكون محشوراً.

ما نلاحظه أن الناس خسرت مدّخراتها و مداخيلها، ومهما كان لديها من ثروة، لكن ما هي الخسارة التي سيتحملونها لاحقاً؟
- في عملية توزيع الخسائر المنظمة، يكون التعامل مع خسائر الأفراد التي أودعت أموالها بالليرة (التي لا تصنّفها جمعيات المودعين بأنها حسابات خاسرة) والتي أودعت أموالاً أكثر بالدولار، ومع الخسائر التي تخصّ الودائع المؤسسة مثل الضمان الاجتماعي ونقابات المهن الحرّة، يكون توزيع الخسائر مختلفاً.
هناك ما بين 20% و25% لديهم مداخيل بالدولار وهذه شريحة كبيرة وواضحة للعيان

حتى إن تقارير صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ولازار وغيرهم من المؤسسات التي حيث تطأ قدمها يظهر توحّشها وشراستها، لم تجر تصفية هذه المؤسسات كما يحصل اليوم في لبنان. التصفية حصلت من دون أي ردّ فعل وبرضى الأطراف. وفجأة انتهى كل الحديث عنها. بينما توزيع الخسائر المنظّم يستوجب تأمين الحدّ الأدنى من قيمة ما يقدّمه الضمان الاجتماعي مثلاً، أو أي من هذه الصناديق، وبالتالي هذا يعني تخصيص أموال لهذا الأمر على حساب بنود أخرى في الخطة الأساسية. الأولويات مختلفة جذرياً.
أول ما يمكن الحديث عنه مما سيحصل لاحقاً، هو انتهاء مخزون العملات الأجنبية في مصرف لبنان. نهايته باتت قريبة جداً، وهو أمر سيتزامن، كما هو ظاهر الآن، مع انتهاء ولاية حاكم مصرف لبنان، وهذا أمر ليس عرضياً بالمطلق. فلنأخذ مسألة الكهرباء مثلاً: في النهاية، مهما ارتفعت قيمة فاتورة الكهرباء أو انخفضت، فإن تمويل استيراد الوقود اللازم لتشغيل المعامل يموّل من مصرف لبنان، وإذا اقتربت نهاية هذا المخزون، يصبح السؤال: بأي أموال نستورد وقوداً لتوليد الكهرباء؟ وبالتالي، تصبح الخيارات المتاحة على الشكل الآتي: تركيب الطاقة الشمسية بالدولارات التي يملكها الأفراد، أو الاشتراك من مولد الحي الذي يقبض بالدولار ليشتري مازوتاً من التجّار الذين يستوردون الكميات من الخارج... إذاً، من لديه دولار لديه كهرباء، ومن ليس لديه دولار ماذا يفعل؟ بالطبع سيلجأ إلى قنوات التقديمات العينية. قرب نفاد مخزون الدولارات في البنك المركزي، هو محطّة مهمة في التمكّن من إدارة الرداءة.

لكن، لا يزال لدينا الذهب؟
- الأرجح أنهم سيُكملوا على الذهب، لكن هذه المسألة تحتاج إلى جرأة سياسية. لا ننسى أنه في كل مشهد إدارة الرداءة ليس هناك أي جرأة سياسية على الأفعال. هذا أمر يحتاج إلى قرار ويتطلب قانوناً يقرّ في جلسة عامة لمجلس النواب.

إذاً، في ظل مرحلة إدارة الرداءة، وفي ظل غياب مخزون الدولارات وتمركز الدولارات المتدفقة من أطراف خارجية إلى أطراف محلية، كيف ستكون النتائج على المجتمع؟
ما هو واضح حتى الآن أن هذا الأمر بدأ يتمظهر بفروقات طبقية حادّة. المشهد عبارة عن فرز طبقي حادّ ولا سيما أنه لم يحصل انزلاق نحو العنف. من لديه الدولارات يحصل على الخدمات، ومن لا يملك الدولارات يُحرم منها.

هل حصل فرز طبقي كهذا بعد أزمات كبرى مرّ بها لبنان، كما حصل في نهاية الحرب الأهلية، أو في نهاية حرب تموز، أو أن هذه النتائج محصورة بالانهيار الأخير؟
- في نهاية الحرب الأهلية حصل فرز طبقي كهذا، وازدادت الفوارق الطبقية حدّة. لكن الحرب الأهلية دامت لأنها تزامنت مع ارتفاع أسعار البترول وازدهار الخليج، وعندما توقفت الحرب جاءت عملية التوزيع على الشكل الذي عبّر عنه الرئيس الراحل رفيق الحريري: «شراء السلم الأهلي بالدين». يومها خُفّضت كل الضرائب، وألغيت الضرائب على الفوائد، وخُفضت الاشتراكات الإلزامية، وجرى توظيف الميليشيات في القطاع العام... بمعنى آخر، جرت عملية توزيع لترتيب الانتقال من اقتصاد الحرب إلى اقتصاد الهدنة. أما الإعمار بعد عام 2006 فهو أمر مختلف، إذ إن تدفق الأموال من الخارج ولّد تبادلاً داخلياً.

ما زال أعضاء في الدولة المزعومة يتحدّثون عن ودائع مقدّسة وضمان حدّ أدنى وهم ليسوا «مجاديب» بل يرددون هذا الكلام لأنهم يعلمون بأن قسماً من الناس على استعداد لتصديقهم

باستعارة النظرية اليمينية التقليدية في الاقتصاد التي تشير إلى أن الأثرياء يُنفقون فيحركون الاقتصاد (العجلة)، إذا جرى إعمار مبانٍ، ولو كانت فارغة، فإن هذا الإنفاق حين يولّد طلباً داخلياً يصبح بمثابة توزيع للأموال ضمن «العجلة». لكن الأمر مختلف تماماً في المرحلة الآنية، إذ إنه في اقتصاد الرداءة يكون الطلب الداخلي المتولّد محدوداً.
لشرح ذلك، يجب العودة إلى مسألة أساسية: كيف ازدادت ودائع المصارف باستمرار؟ من خلال الإقراض، ومن الطلب الداخلي. فعلى سبيل المثال، ما يتم تحويله من الخارج إلى حسابات الأفراد في المصارف للادخار، يختلف عما يتم تحويله بهدف الاستهلاك الشخصي الذي يموّل الاستيراد، أي تعود الأموال إلى الخارج. وبالتالي كلما كان التحويل الفردي كبيراً، كلما سُجّل قسم كبير منه في الادخار، أي في ودائع المصارف.

تسعى السلطة إلى نقلة تعتمدها كنهج منقّح للنموذج الذي كان قائماً

كذلك، فإن التوسع في التسليف الداخلي يزيد ميزانيات المصارف. هذان الأمران تعطّلا اليوم، ليس فقط لأن المصارف متوقفة ولا يمكنها الإقراض، بل لأن الطلب الداخلي المتولّد من التدفقات الجارية شبه متوقف، أي إن التدفقات تموّل استهلاكاً جارياً. وهذا ما يُنتج فرزاً طبقياً أشدّ بكثير من أي فرز حصل سابقاً. يمكن الاستدلال على ذلك من خلال الانهيار المذهل في حجم الناتج المحلي الإجمالي. فعلى افتراض أن هناك شركة تملك موظفين، ففي ظل الأزمة باتت قدرتها على زيادة رواتب الموظفين متدنية لا لأنها ترفض، بل لأن حجم المبيعات تقلّص، وبالتالي فإن ضمور الناتج المحلي يجعل الوزن النسبي للتحويلات من الخارج يرتفع.
ضمن إدارة الرداءة، فإن حصّة الأموال المتدفقة من الاستهلاك المحلي، تنامت بشكل لافت جداً، وذلك لأن المداخيل المتأتية من الإنتاج المحلي انكمشت بشكل كبير. تدنّي الناتج المحلي بنسبة تفوق 60%، مقارنة مع تدنّي الاستهلاك بما لا يزيد عن 20%، معناه أن الطلب الداخلي المتولّد لا يُذكر، علماً أن أول قناة توزيع هي التبادل الداخلي وتعطّلها ينعكس مباشرة على المداخيل. لذا، فإن الانكماش المفاجئ في حجمه للناتج، مع تعطّل آلية التوزيع البسيطة عبر الطلب الداخلي، أدّى إلى تركيز الاهتمام على قنوات التوزيع غير المتّصلة بالعجلة الاقتصادية، أي «الكرتونة»، «البطاقة»، وسائر ما يقدّم عبر الأحزاب والمنظمات.

هذا الأمر يفسّر بشكل واضح عملية التكيّف، إذ يتم تعويض الخسارة في المداخيل من خلال قنوات جديدة للتوزيع، لكنه يعني أيضاً اتساع الفوارق الطبقية. أين نرى هذا الفرز؟
- هناك قسم كبير من الناس الذين يعيشون من وظيفة في الدولة وفي القطاع الخاص وبشكل أساسي من المصارف والتأمين والإعلام وفي مجالات لها علاقة بالبناء، والباقون متصلون بالاستيراد مثل السيارات والملابس... ما يتعلق بالاستيراد، فإن أوضاعهم ظاهرة للعيان، إذ أغلقت المحال أو ما زالت مفتوحة على الأمر اليسير فقط، كما تكدّست أيضاً عشرات ألوف الناس بلا دخل. الفرز يمكن تصنيفه إلى مستويات:
- من لديهم مخزون أو مداخيل بالدولار بصفتهم الشخصية. وهؤلاء يختلفون عن الآخرين.
- من ليس لديهم دخل بالدولار لكن لديهم حصّة من مزاريب التوزيع الجديدة عبر خدمات عينية (كرتونة، دعم مدرسي...).
- من لا يحصل على أي من ذلك.

الأرجح أنهم سيُكملوا على الذهب لكن هذه المسألة تحتاج إلى جرأة سياسية


لنأخذ مثالاً على الشريحة الأخيرة، وهم المتقاعدون. بعضهم يحصل على تحويلات من عائلاتهم المغتربة، وبعضهم لا يحصل على ذلك. إنما في المجمل، إن الادخار في لبنان مبرّر لأنه بمثابة تأمين تقاعدي في لبنان عند التقدم في العمر. وهذا ينقسم إلى ادخار فردي أو جماعي. كل هذه الأموال طارت. مثلاً، في نقابة المهندسين طارت 500 مليون دولار، وأُربكوا في التعامل مع ذلك، لكن عندما قررت المستشفيات أن تتقاضى فاتورتها من النقابة بالدولار النقدي، عمدت النقابة إلى تعديل الاشتراكات للتأمين الصحي بالدولار النقدي بين 200 دولار و300 دولار تبعاً للفئة، وبكلفة تفوق 1000 دولار على الأهل. هناك عدد كبير من المهندسين مهاجرون ويسدّدون اشتراكاتهم ما يعني أنه لولا هذه الفئة لكانت الكلفة على المهندسين المقيمين أكبر بكثير. رغم كل ذلك، استمرّ العجز في صندوق النقابة. لكن النقابة، تكيّفت. فقد أنفقت ما تبقى من مخزون الدولارات، ثم عمدت إلى تأمين استمرارية التكيّف عبر تحويل الاشتراكات إلى الدولار (النقدي)، لكن هذا التكيّف لم يشمل المتقاعدين الذين كانوا يتقاضون رواتب تقاعدية بقيمة 1.350 مليون ليرة، ورغم أن هناك مشروعاً لزيادتها إلى 165 دولاراً، إلا أن هناك اعتراضات لأنها ستكلّف المهندسين المسجلين في النقابة اشتراكات إضافية. هذا مشهد حقيقي من عملية التكيّف واستمراريتها، والتي لم تكن لتحصل لولا أن أكثر من نصف المهندسين مهاجرون ليغطّوا باشتراكاتهم كلفة تأمين المهندسين المقيمين. أما المهندسون المتقاعدون الذي راكموا المدّخرات إفرادياً وجماعياً (في المصرف أو مع النقابة التي وضعتها في المصارف) لتأمين معيشتهم وطبابتهم عند تقدّمهم في العمر، فبعضهم من ليس لديهم مغتربون يعوّلون على تحويلاتهم، وأصبحوا ضمن الفئة الأكثر تضرراً، ولا سيما أنهم من فئة عمرية كبيرة. الكلفة الصحية لهؤلاء أعلى من غيرهم بكثير. التكيف على مستوى التغطية الصحية لم يكن ليتم لولا الهجرة الكبيرة واستخدام حصّة وازنة من المخزون.

هناك سؤال يُثار دائماً عن مطاعم ممتلئة بشكل شبه دائم، وحركة استهلاك لافتة، كيف يمكن تفسير ذلك في ظل الاتساع في الفجوة بين الطبقات؟
- ما بين 20% و25% من المقيمين في لبنان لديهم مدخول بالدولار أو لديهم مغتربون. هذه نسبة كبيرة يمكن رؤيتها بوضوح، وهي ليست فئة الـ 1% كما يقول جماعة الأوليغارشية. هذه فئة كبيرة.
عموماً، لا يمكن مقاربة الطبقات في لبنان من دون الأخذ في الحسبان كل المقيمين، فلا يجب أن نغفل أن هناك نسبة كبيرة من المقيمين يقومون بالأشغال اليدوية البسيطة وهم غير لبنانيين وتحديداً سوريون.

في اقتصاد الرداءة يكون الطلب الداخلي المتولد محدوداً

الصورة من دون هؤلاء تكون ناقصة. لا يمكن الحديث عن طبقة عاملة لبنانية بلا هؤلاء. وإدارة الرداءة تخضع لاجتهاد كبير. صحيح أن هناك حالات بؤس وفقر، لكن لم يصل الأمر إلى المجاعة. حجم المساعدات الخارجية كبير من مصادر مختلفة وهي قد تصل إلى 4 مليارات دولار سنوياً، أي إن توزيع هذه الأموال بالتساوي على المقيمين، يعني أن حصّة الفرد يمكن أن تصل إلى ألف دولار. حالات البؤس الفردية موجودة لكنها لا تتسم بالمجاعة.
أهمية ما حصل يكمن في التمييز بين المزاريب الثلاثة: مخزون مصرف لبنان من الدولارات، الأموال المتدفقة من الاغتراب وهي متزايدة، الأموال المتدفقة سياسياً، وكل الرهانات المتعلقة بانتخاب الرئيس وغيرها، تدور حول زيادتها. كل واحد من هذه المزاريب له مفاعيل خاصة ومختلفة عن الأخرى. لا يجوز جمعهم والقول إنهم أمر واحد.

ما هو سقف الرداءة المتاح تمهيداً للخروج من هذه المرحلة؟
- حتى الآن، كل المساعي تنصبّ في المدى المنظور (5 - 6 سنوات) على جعل الرداءة تستقرّ (الاعتياد على نمط الحياة هذا). إذا سألنا أي شخص عن كيفية الخروج من مرحلة الرداءة، فإن الاقتصاد المنتج يتصدّر كل الإجابات، وتليها أجوبة من نوع طرد السوريين وسواها. لا يدرك هؤلاء أن الاقتصاد المنتج يتطلّب عمالاً، بينما ترسّخ على مرّ الأجيال في لبنان أن لدينا مكانة اجتماعية معينة، وهذا يثير إشكالية واضحة حول دفعهم إلى العمل والعيش في الاقتصاد المنتج. هذا أمر تواجهه السعودية الآن. بشكل عام، هذه النقلة النوعية تتطلب إرادة سياسية صلبة، ورغبة سياسية لأن السلطة ستصطدم بعوائق هي وضعتها أصلاً لاستفادتها الخاصة، وهذه مغامرة ليست سهلة. يجب أن تتحمل السلطة مشقّة مواجهة الممانعات التي ستظهر، وتحفيز الناس. يتطلب الأمر مشروعاً سياسياً لدفع الناس نحو التضحية في مقابل النموذج الجديد. وهذا الأمر ليس موجوداً بتاتاً لأنه عوضاً عنه يتمسّك أولئك القادرون على الاستماع إلى الدجل، بأنها «بترجع تظبط» يا إما بالمفرّق، أو بالجملة.