«مسألة السيادة هي: هل الدولة تسيطر على عالم المال، أم عالم المال يسيطر على الدولة؟ في اليونان، على سبيل المثال، الأخيرة هي الحقيقة، حيث سيادة الدولة أمر هامشي وجزء صغير من علاقات القوة التي تُسَيِّر هذا البلد»
ديفيد هارفي


منذ نحو السنتين (يمكن الاطلاع عليها هنا وهنا)، نشر أحد الاقتصاديين اللبنانيين ورقة بعنوان «الأزمة المالية في لبنان»، أتى فيها على بعض من مسبِّبات أزمة مالية مُحتملة في لبنان، وانتقد فيها الحسابات لدى مصرف لبنان وكيف أن دفعه الفوائد العالية على ودائع المصارف لديه والهندسات المالية التي اتبعها تُؤثّر بميزانيته، ما ينعكس سلباً على المشهد النقدي في البلاد. يومها، ردّ المصرف المركزي، ربّما للمرّة الأولى في تاريخه على ورقة ذات صفة بحثية. طبعاً، منذ ذلك الوقت وحتّى الآن، وعلى عكس رغبات المصرف المركزي، استمر الوضع النقدي بالتدهور، وصدرت تقارير عدّة من جهات عدّة: من تقرير غولدمان ساكس «الشهير» الذي تحدّث عن إعادة هيكلة الدَّيْن من أجل ضمان استدامته (ولكن لم يردّ عليه المصرف المركزي!)، مروراً أخيراً في حزيران/ يونيو الماضي بورقتين، الأولى لأحد موظّفي المفوضية الأوروبية الذي يُقرأ مضمونها من عنوانها «هل يستطيع لبنان أن يستمر بتحدّي الجاذبية إلى الأبد؟»، والثانية تقرير لمؤسّسة التصنيف «موديز». والأخير، أثار عاصفة محدودة واستدعى دفاعاً، كالعادة، من البعض عن النظام الاقتصادي اللبناني، واتهامات من البعض الآخر ذهبت إلى وضعه في إطار «نظريات المؤامرة» على لبنان!
أخيراً، في بداية هذا الشهر، أصدر صندوق النقد الدولي تقريره حول لبنان تحت ما يعرف بالبند الرابع.

أنجل بوليغان ــ المكسيك

طبعاً، أكثر ما ذكره التقرير ليس بجديد على تقارير الصندوق، وخصوصاً لجهة انحيازه المستمرّ إلى زيادة الضرائب غير المباشرة وزيادة الضريبة على القيمة المضافة وعلى البنزين، وحلّ معضلة الكهرباء مالياً فقط، وعدم تطرّقه إلى أيّ نوع من الضرائب المباشرة على الأرباح والثروة. اللافت هذه المرّة، الذي يكمن وضعه في سياق ورقة الاقتصادي توفيق كاسبار المذكورة آنفاً، أن الصندوق تطرّق إلى الوضع النقدي وخطّة وزارة المالية لإصدار سندات خزينة بقيمة 11 ألف مليار ليرة بفائدة 1 بالمئة، ما يوفّر على الخزينة أكثر من 650 مليون دولار سنوياً، حيث قال: «إن شراء مصرف لبنان للسندات المنويّ إصدارها ستؤدّي إلى أن تسوء حالة ميزانية المصرف وستُضرب صدقيته. كذلك فإنه يجب ألّا يحصل أي ضغط على المصارف لشراء هذا الدَّيْن المتدني الفائدة». لكن اللافت أكثر، أن هذا الموقف تحوّل فجأة لدى المعلّقين والصحافة وبعض السياسيين إلى «فيتو» من الصندوق على هذه السياسة. وهذه المرّة أيضاً، صمت المصرف المركزي، ولكن هذه المرّة يمكن اعتبار سكوته من ذهب، أي إنه موافق على «فيتو الصندوق». ومن هنا يبدو الأمر كلّه وكأنه ليس «إملاءً» من صندوق النقد على لبنان، بل انعكاس لإملاءات الرأسمال المالي اللبناني على الصندوق. وبالتالي، يمكن استشراف استكمال سيطرة الرأسمال المالي على القرار السياسي اللبناني، في ما يمكن أن نسمّيها الطريق الحقيقية إلى اليونان.

لماذا تهتم التقارير أكثر بلبنان ولماذا هو يهتمّ أكثر بها؟
في هذا الإطار، يتزايد الاهتمام المحلّي بالتقارير وتزداد التقارير اهتماماً بلبنان. وهناك سببان لهذا: الأول، منذ 2011 والتدفّقات المالية إلى لبنان تتراجع، ونحن في حالة «أزمة حساب الرأسمال»، وأصبح بالتالي التدفّق المالي الإضافي ليس مضموناً بسبب استهابة مصدّري هذا الرأسمال من الوضع الناشىء، وبالتالي يزداد الضغط على العملة اللبنانية وعلى قدرة المصرف المركزي على الاستمرار في تثبيتها، وهذا الأمر إذا تفاعل سيؤدّي إلى إطاحة هذا التثبيت، وهذا لسان حال هذه التقارير علناً أو إيحاءً. ثانياً، منذ 2009، بدأ صعود «حامل السندات» عالمياً، إذ تزايد منذ ذلك الوقت حصّة الأسواق العالمية من إصدارات اليوروبوندز اللبنانية. وهذا الدائن العالمي يستجيب لما تقوله التقارير على عكس ما كان يحصل من قبل، حيث كان الدَّيْن فقط «محلّياً». وعلى الرغم من أننا لم نصل بعد إلى مرحلة حيث يقرّر هؤلاء مصير الليرة اللبنانية، كما حدث مع بعض الدول، إلّا أنهم بدأوا يضعون ضغطاً سيكولوجياً على الأسواق لم يكن موجوداً من قبل. فالاقتصاد السياسي للدَّيْن العام في لبنان دخل إليه لاعب جديد، وهناك تشقّقات في أطرافه الأخرى: المصارف والمصرف المركزي ووزارة المالية بسبب وضع الشروط من قبل «سيدر» وبسبب انفجار الموازنة على أثر سلسلة الرتب والرواتب، وبسبب حمل مصرف لبنان لنحو 1/3 الدَّيْن العام، بينما يدفع للمصارف فوائد على ودائعها لديه. وقد أدّى كلّ ذلك إلى عودة إلى التوتر بين وزارة المالية ومصرف لبنان، كما حدث قليلاً في عام 1998، وذلك حول نسب الفوائد. وبالتالي، بدأنا نرى أخيراً تململاً واضحاً من الجانبين، أحدهما تجاه الآخر.

التعاون أم السيطرة؟ هندسة مالية معاكسة
هذا الخلاف بين وزارة المالية ومصرف لبنان، ومن ورائه المصارف اللبنانية وصندوق النقد الدولي، يبدو أنه وُئدَ في مهده. وهذا الخلاف يقع في إطار ما يُعرف بمعضلة التنسيق بين السياستين المالية والنقدية. والأمر يتمحور عادة حول ــ كما في الخلاف الحالي ــ مستوى الفوائد. لكن الأمر ليس فقط موضوعاً «محاسباتياً» كما ينظر إليه في لبنان الآن لحلّ معضلة آنية كعجز موازنة 2019، بل يتخطّاه إلى أمور أعمق بكثير، إذ إنّ هذا التنسيق أو عدمه سيؤثّر، بالإضافة إلى تراكم الدَّيْن العام، بتراكم رأس المال والنموّ والبطالة، وإلى ما هنالك من تأثيرات اقتصادية حقيقية ترتبط ارتباطاً مباشراً بالرفاه الاقتصادي. وهذا التنسيق، أو عدمه، مرتبط بأمور عديدة، جزء أساسي منها من يسيطر على السياسات وأهدافها. في لبنان، في ما عدا حوادث متفرّقة من «انتفاضات» لوزارة المالية أيام الوزير جورج قرم أو حالياً، فإن المسيطر هو الرأسمال المالي ومصرف لبنان. وبالتالي أتى طرح الـ11 ألف مليار في هذا الإطار: وزارة المالية تريد فوائد متدنية للسيطرة على العجز، ومصرف لبنان يريد فوائد مرتفعة للحفاظ على «أرباحه» وأرباح المصارف وتدفّق الأموال والعملة الصعبة ضمن محاولات أصبحت تأخذ أشكالاً أكثر وأكثر يأساً للدفاع عن سعر الصرف، ومنها «الهندسات المالية». وهنا يمكن أن ننظر إلى طرح الـ11 ألف مليار كـ«هندسة مالية معاكسة» لوزارة المال، ووجِهَت بمعارضة تقول ضمنياً إنّ الهندسة المالية الوحيدة المسموح بها، هي ليست لخفض كلفة الدَّيْن العام، بل للاستحواذ على عملة صعبة لحلّ معضلة حساب الرأسمال مهما كانت كلفتها.
طرح الـ11 ألف مليار وجِهَ بمعارضة تقول ضمنياً إنّ الهندسة المالية الوحيدة المسموح بها، ليست لخفض كلفة الدَّيْن العام، بل للاستحواذ على عملة صعبة لحلّ معضلة حساب الرأسمال


وهذا الأمر بالطبع ليس حكراً على لبنان. ديفيد هارفي يشير إلى قصّة بُعيد انتخاب بيل كلينتون في عام 1992. فعندما عرض برنامجه الاقتصادي، قال له مستشاره روبرت روبين (الذي أصبح بعد ذلك وزير الخزانة): «لا تستطيع أن تفعل ذلك»، فأجابه كلينتون: «ولمَ لا؟». فأجاب روبين: «حاملو السندات لن يدعوك»، وقد تردّد أن كلينتون ردّ عليه قائلاً: «هل تقصد أن كل برامجي الاقتصادية وإمكانية إعادة انتخابي تعتمد على حفنة من المتاجرين اللعينين بالسندات؟»، أجابه روبين: نعم.
في هذا الإطار، نستطيع أن نرى أن خطّة سندات الـ11 ألف مليار، إذا حملها مصرف لبنان، ستؤدّي إلى قطع جزئي لتدفّق الفوائد التي تذهب من الضرائب إلى وزارة المالية إلى المصرف المركزي إلى المصارف. وهنا يكمن موضوع التأثير بميزانية مصرف لبنان، وهو الذي كان قد طرحه كاسبار في ورقته منذ سنتين. لكن هذا التأثير يمكن المصرف المركزي تحمّله ضمن خطّة تدريجية لاستبدال سندات صفر الفائدة بالسندات التي يحملها، لكن بشكل تدريجي كما طرحت سابقاً (انظر «مقصلة» غولدمان ساكس: البديل هو إلغاء دَيْن الدولة لدى مصرف لبنان). كذلك فإن التخويف من أن يكون شراء المصرف المركزي للسندات سيؤدّي إلى التضخّم، كما حذّر مثلاً الكثيرون، ومن بينهم تقرير آخر لموديز صدر في 22 أيار/ مايو الماضي، هو في غير محلّه. فالمصرف فعل ذلك أكثر وأكثر منذ 2011، أي لسنوات، ولم يحصل التضخّم. لكن الأهم، أن خطّة وزارة المالية يمكن أن تكون «استبدالاً» لسندات قديمة ذات فائدة عالية يحملها حالياً مصرف لبنان، وليس إصدار سندات جديدة يشتريها المصرف. وهذه العملية لن تكون بالتأكيد تضخّمية على الإطلاق.

... وفي الطريق إلى اليونان انتبه لئلّا تنتهي كيوغوسلافيا
لقد كانت الرحلة من عام 1992 وحتى الآن هي الطريق إلى تأكيد سيطرة الرأسمال المالي اللبناني على الدولة والسيادة في لبنان. ولكن اليوم هناك أيضاً، في الخلاف بين وزارة المالية من جهة ومصرف لبنان والمصارف من جهة أخرى، بعض من الصدام بين الرأسمال المالي والتنظيم المذهبي للمحاصصة في الدولة، إذ إن هناك إعادة تموضع للرأسمال في مواجهة بعض الإرهاصات الاقتصادية للدولة الطائفية. وفي ظل تعمّق الأزمة الاقتصادية، نرى المنسوب الطائفي يرتفع. وهنا يجب التحذير من عدم الاستمرار باللعب بـ«الاقتصاد» الذي اعتادته الطبقة الحاكمة، لأن هناك دائماً من كان ينقذها من الخارج. هذه المرّة لا يبدو أن هناك منقذاً، و«سيدر» لن تكون «الغذاء المجّاني» على ما يبدو. وهكذا تأتي التقارير الواحد تلو الآخر من الخارج، ولكن يجب النظر إليها ليس كتجليات لانتهاك خارجي للسيادة اللبنانية، فـ«المستعمر» اليوم داخلي، وفيتو صندوق النقد ما هو إلّا الشكل الخارجي لسيطرة الرأسمال المالي المحلّي وللأزمة الداخلية لا أكثر ولا أقل. وبالتالي، الحلّ لا يمكن إلّا أن يكون كذلك أيضاً.