«كما بحركة من عصا الساحر، فإن الدين العام يعطي المال العقيم القدرة على التكاثر ويحوّله إلى رأسمال، من دون الحاجة لأن يعرّض نفسه للعناء والمخاطر التي تترافق عادة مع استعماله في الصناعة أو حتّى في الربى»كارل ماركس

إنه عام 1992، أجواء الرأسمال في لبنان متفائلة، بل متفائلة جدّاً، فالأعوام اللاحقة ستكون أعواماً من إعادة الإعمار والاستقرار النقدي والنموّ الاقتصادي العالي وارتفاع الاستثمار العام والخاص كما مستوى معيشة اللبنانيين، من دون دين يُذكر، وعودة لبنان إلى سابق عهده، وغيرها من الوعود التي عُرفت في ذلك الوقت بعناوين مثل «خطّة النهوض الاقتصادي» و«آفاق 2000». كلّ هذا اصطدم بالواقع، باكراً، لكن الأمور قطعاً لم تكن أسوأ ممّا هي عليه اليوم: إنه عام 2019 وأجواء الرأسمال متشائمة، بل متشائمة جدّاً.
تقرير غولدمان ساكس الشهير (أو السيئ الذكر كما سنرى) الذي صدر في 4 كانون الثاني/ يناير الحالي طرح أن انتقال لبنان إلى سكّة «استدامة الدين»، سيتطلّب إعادة هيكلة الدين العام بحيث يُلغي 65% منه، وبالتالي فإن الدائنين سيحصلون فقط على 35 سنتاً لكل دولار! والأسوأ من ذلك فإن ما يسمّى بـ«قصّة الشعر»، ستؤدي إلى تدمير رأسمال المصارف اللبنانية كما قد تمتدّ إلى حسابات المودعين أو سندات الأجانب. الواضح إذاً أن هذه لن تكون «قصّة شعر» بأي حساب كان، بل ستكون المقصلة!

يصل التقرير إلى استنتاجاته عبر عملية حسابية، وأنه في الظروف الحالية من إمكانية النموّ (2.6%) والفوائد (6.5%) وإمكانية الفائض الأولي (2%)، فإن الدين العام المستدام سيكون 52.6% من الناتج المحلّي. وبما أن الدين الآن يبلغ 150% من الناتج، بالتالي على لبنان خفض الدين العام بنحو 55 مليار دولار عبر إلغائه. السؤال الذي طرح نفسه في الأيام الماضية، هل صحيح هذا الأمر على الرغم من أن التقرير حاول أن يلطّف من طروحاته بقوله إن عمليات إعادة الهيكلة تعتمد على أمور عدّة منها التفاوض بين الدولة ودائنيها والأهداف السياسية والاقتصادية المختلفة؟ لكن كان الضرر قد حصل، ولخطورة هذا الأمر ولطرح البديل لا بدّ من ذكر بعض الأمور:

التوازن ليس استدامة
أوّلاً، البدء بالنظر في إعادة الهيكلة للدين العام لأي بلد لا يبدأ بالعملية الحسابية التي ابتدأ فيها التقرير. كما أن رقم الـ52.6 في المئة، على عكس ما يقوله التقرير، هو ليس الرقم المستدام (sustainable) بل هو الرقم التوازني (equilibrium value) في معادلة نموّ الدين العام الديناميكية، هذا إذا اعتبرنا أيضاً أن كل المتغيّرات الأخرى أي الفوائد والنموّ الاقتصادي هي ثابتة على 6.5% و2.6% على التوالي. وحتى إذا صحّ ذلك، فإن الاقتصاد هو نظام ديناميكي، وهو كأي نظام ديناميكي سيتطلّب فيه الوصول إلى التوازن مدّة زمنية معيّنة وليس بالضرورة أن يتمّ الوصول إلى هذا الرقم الآن وآنياً. إن تجاهل هذا الأمر، والخلط بين ما هو في القصير المدى وما هو على المدى الطويل، هو عادة ما يحصل عندما يُنظر إلى الاقتصاد بعقلية المحاسبة فتنفّذ سياسات تضع الاقتصاد في سترة حديدية وتخنقه.
ثانياً، كما ذكرت فإن الاستدامة لا تعني التوازن، بل إن الاستدامة هي أن لا يؤثّر هذا الدين على النموّ الاقتصادي وألا يؤدّي إلى عدم مقدرة الدولة على استعمال السياسة المالية كالإنفاق من أجل تحقيق الأهداف الاقتصادية مثل محاربة الركود. ويختلف الاقتصاديون حول الرقم الذي يجب أن يكون عليه الدين من أجل تلبية شروط هذا التعريف، ولكن من الواضح جدّاً أن لبنان هو في حالة عدم استدامة إذ أن الدولة مقيّدة في استعمال السياسة المالية بسبب الدين العام العالي. وبالتالي إن الاستدامة اليوم تعني انخفاضاً تدرّجياً في هذه النسبة فقط، وليس مرّة أخرى الانتقال السريع إلى رقم محدّد، إن كان ذاك الذي أتى في التقرير (52.6%)، أو الذي أتى في معاهدة ماستريخت أي 60%، أو حتى الذي يُحتسب من قِبل البعض وفق التعريف ويقارب الـ90%.
بالإضافة إلى العلاقة بين الفائدة والنموّ لتحقيق هذا الانخفاض عبر جعل النموّ (g) أعلى من الفائدة (r)، إلا أنه لإطلاق عملية الاستدامة في لبنان لا يمكن تحقيق ذلك آنياً، وبالتالي يجب استخدام الفائض الأوليّ، أي حساب الخزينة قبل دفع خدمة الدين، من أجل الوصول إلى هذه الاستدامة. ولكن هنا الأمر أيضاً يتطلّب ألا تؤدّي هذه الفوائض المتتالية إلى ركود عبر رفع الضرائب على المستهلكين وخفض الإنفاق الحكومي وخفض الأجور الحكومية، وهي إجراءات يطرحها البعض في لبنان، ممّا يعيد الاقتصاد إلى حالة بين مطرقة الدين وسندان عدم النموّ.
يكمن البديل في إحداث فائض أولي غير مؤذي عبر زيادة الضرائب على عوائد الرأسمال الريعي من فوائد، وعلى الأرباح العالية للمصارف والشركات المالية وغيرها (وكلّها لا تؤثّر على الاستثمار ولا على الاستهلاك لأنها الآن تتكدّس من دون استعمال) بحيث يمكن أن يؤمّن هذا الاقتطاع الضريبي الإضافي نحو 1.5 مليار دولار سنوياً أو 3% من الناتج.
ثالثاً، الكلّ يعرف من هي غولدمان ساكس، ودورها خلال وبعد أزمة 2008، وغيرها من الأمور الملتوية، التي أدّت إلى وصفها الشهير في مقال في مجلّة Rolling Stone بـ«الحبّار الضخم المصّاص للنقود»، ولكن سأترك هذا الموضوع للقارئ. لكن لا بدّ من ذكر أن التقرير يشوبه الكثير من الافتراضات الذي ذكر أنها «ذاتية جدّاً». كما هناك نوع من الإهمال الذي لا يليق بتقرير يتحدّث عن موضوع اقتصادي ومالي حساس جدّاً: أحد عناوين التقرير يقول إن «الحالة الأساسية تعني قصّة شعر لـ65% من سندات اليوروبوند اللبنانية». وهذا يعني أن الذين كتبوا التقرير لا يعلمون أن الدين العام ليس كلّه مكوّناً من اليوروبوندز التي تبلغ قيمتها 35 مليار دولار فقط! كما يقول التقرير بخفّة، وبهدف التخفيف من الضرر على المصارف، يمكن أن تكون قصّة الشعر أعمق على الدين الخارجي!

إعادة الهيكلة المطلوبة وميزانية مصرف لبنان
إذا أخذنا بفكرة الاستدامة وليس التوازن، وإذا أردنا أن نفعل الأمر بأقل الخسائر ماذا يمكن أن نفعل؟ لنعود إلى الدين فهو ليس كتلة واحدة بل ينقسم إلى ثلاث كتل بعملتين: الجزء الأوّل هو للمصارف ولا نريد المسّ على الأقل بأصله. الجزء الثاني لدى الجمهور الداخلي والأسواق الخارجية وأيضاً لا نريد المسّ به. أمّا الجزء الثالث الذي لدى مصرف لبنان، فلنأخذ القسم الذي بالعملة اللبنانية منه، ويبلغ نحو 24 مليار دولار، أي نحو 1/3 الدين العام.
تراكم هذا الدين لدى المصرف المركزي لأنه لعب لسنوات عدّة، وبصورة متزايدة باطراد، دور الدائن الأخير للدولة (lender of last resort). المصرف هو جزء من الدولة، وبالتالي الدين هو بين قطاعات الدولة نفسها، ويستطيع المصرف المركزي أن يلغيه عبر تحويله من سندات خزينة تدفع الدولة عليها فوائد بنحو 1.5 مليار دولار سنوياً أي ثلث خدمة الدين، إلى سندات أبدية من دون فائدة (zero interest perpetuities). عملياً، بهذه الطريقة يتمّ شطب هذه الكمية من الدين من دون أي تأثير على الاستقرار النقدي. يبقى أن المصرف المركزي، وفي موازاة شرائه سندات الخزينة، راكم أكثر من 120 مليار دولار من ودائع المصارف، يدفع الفوائد على جزء كبير منها، وبالتالي فهو لا يستطيع إلغاء هذا الدين دفعة واحدة، خصوصاً أنه يحمل التزامات بالدولار الأميركي. وبالتالي فإن الإلغاء يجب أن يتمّ تدرّجياً بحيث يوازن بين دخله من إعادة تقييم الذهب والرسوم من سكّ العملة والعوائد على الأدوات الأخرى التي يحملها، وبين الدخل الذي يخسره من الإلغاء، كما يجب أن تترافق هذه العملية مع بدء التخفيف (unwinding) من ضخامة ميزانيته التي انفجرت في السنوات الأخيرة، ممّا يخفّف من التزاماته تجاه المصارف. وهذا من شأنه أن يزيد الطلب العام في الاقتصاد. إن إعادة الهيكلة هذه التي ستجعل الدين إلى الناتج المحلّي نحو 100% فقط، وهو رقم لم نرَه منذ التسعينيات، مع الإجراءات الضريبية، سيُنتجان في النهاية فائضاً أولياً بنحو 5% من الناتج سنوياً واستدامة للدين، وبالتالي تُخَفّض الفائدة ويتمّ خلق حلقة حميدة من الفوائد المتدنية والنموّ الأعلى وعجوزات الخزينة الأقلّ وانخفاض الدين إلى الناتج بدلاً من الحلقة الجهنمية التي يدور فيها الاقتصاد اليوم.
إن خطورة تقرير غولدمان ساكس تكمن في النهاية، ليس في طرحه إعادة الهيكلة، بل بأنه قد يدفع بالبعض إلى قبول إجراءات تقشّفية مؤذية. لكن التقرير في الوقت نفسه، يتيح لنا فرصة لقلب المفاهيم ضدّ خطط الرأسمال (detournement)، عبر إعادة هيكلة غير مؤذية متاحة اليوم، ويُمكن أن تخرج الاقتصاد اللبناني من هذه السترة الحديدية التي وضعته فيها السياسات القديمة. إذاً لقد آن الأوان للخروج من الأزمة، لكن إذا ظنّ المصرف المركزي والمصارف أنها تستطيع الاستمرار بالحلقة الجهنمية الحالية إلى الأبد، فعندها ستكون الكارثة التي لن ينجو منها أحد.