دفعت الأزمة المالية عام 2007 الاقتصاد العالمي إلى أكبر تراجع منذ الكساد الكبير. واستطاعت الطبقات الرأسمالية إنقاذ النظام عبر مزيج من الحوافز والائتمان المنخفض الثمن وإجراءات تقشّف كبيرة طاولت الطبقات العاملة حول العالم. وعلى الرغم من أن هذه الخطوات حفّزت انتعاشاً جديداً، إلا أنه انتعاش ضعيف عانى من مجموعة من التناقضات السياسية والاقتصادية.طلبت مجلّة «إنترنشاونل سوشلست ريفيو» International Socialist Review من مجموعة من الاقتصاديين الماركسيين إعطاء تقييمهم الخاص لعصرنا الاقتصادي ومساره.
لي سوستار Sustar Lee قدّم المساهمة الثالثة (بعد مساهمتي هاداس ثير وديفيد ماكنالي)، ويحلّل كيف أثارت الأزمة والطفرة التي تلتها حروباً تجارية وأججّت النزاعات بين القوى الاقتصادية الرئيسية في العالم، لا سيّما الولايات المتحدة والصين، في مداخلة بعنوان «من الكساد إلى الطفرة؟»
بعد عشر سنوات على الركود العالمي، يُظهر الاقتصاد العالمي بعض التحسّن. ويتوازى ذلك مع اقتصاد أميركي مستقرّ، ولكن بطيء ويستعدّ للتحرّك بوتيرة أسرع في العام الجاري 2018، نتيجة النمو العالمي من جهة، ونتيجة دفعة من التخفيضات الضريبية الشاملة وتمويل الإنفاق بالاقتراض من جهة أخرى.
بدا هذا الارتفاع في النمو العالمي غير متوقّع إلى حدّ كبير في العام 2015، حين تسبّب تباطؤ في الصين بذبذبة في أسواق الأسهم هناك، فضلاً عن أزمات لدى كثير من مصدّري السّلع المعتمدين على الطلب من ذلك البلد. وأشار صندوق النقد الدولي في نيسان/ أبريل 2018 إلى أن «الانتعاش الاقتصادي العالمي، الذي بدأ في منتصف 2016 توسّع واكتسب مزيداً من القوة»، على الرغم من إظهاره مؤشّرات حذر من ارتدادات الأزمة، ولا سيّما «ارتفاع مستويات الدين على المستوى العالمي» والهزّات الارتدادية السياسية التي تقود إلى «سياسات قومية»(1).
بالطبع كان صندوق النقد الدولي يلمّح إلى التغييرات السياسية التي تسبّب اضطراباً في الجوهر التاريخي للاقتصاد العالمي، مثل «بركسيت» وترامب والأزمة في الأحزاب السياسية القائمة وصعود اليمين المتطرّف في فرنسا وألمانيا وإيطاليا. قد تقود هذه الاستدارة نحو القومية الاقتصادية إلى زعزعة الاستقرار، كما هي الحال مع الرصاصات الأولى للحرب التجارية التي أطلقتها الولايات المتحدة، ليس ضدّ الصين أولاً، التي تشكّل مصدر الشرّ بالنسبة إلى حملة ترامب الاقتصادية، بل أيضاً ضدّ الاتحاد الأوروبي وشريكي «نافتا» أو اتفاقية التجارة الحرّة لأميركا الشمالية، أي كندا والمكسيك. وهذا يشكّل أفول العصر النيوليبرالي للرأسمالية، فالولايات المتحدة قادت النظام الاقتصادي الدولي بناءً على صفقات تجارية وتراجع الأزمة العالمية للرأسمال المالي.

جذور الانتعاش
نظراً إلى هذه الظروف الجديدة وغير المستقرّة، تصبح التوقّعات الاقتصادية قيمة مشكوكاً فيها أكثر من العادة. ينصبّ التركيز هنا على العوامل الرئيسية للانتعاش وعلى التناقضات، الاقتصادية والسياسية على حدّ سواء، التي تشكّل الأساس للركود التالي.
تم تحقيق نمو اقتصادي عالمي أعلى منذ عام 2015 عبر ثلاث طرق:
1- معدّلات فائدة متدنية للغاية بشكل مستمرّ في البلدان المتقدّمة، بالإضافة إلى تيسير كمّي (المعادل الحديث لطبع النقود)، بما ساهم، ولو ببطء، في تعزيز العمالة والطلب الفعّال من المستهلكين. على وجه الخصوص، عادت تحرّكات المصرف المركزي الأوروبي في آذار/ مارس 2016 إلى مستويات التدخل في فترة الأزمات، ما أدّى إلى خفض فائدة إعادة التمويل في نظام اليورو إلى 0% (2).
2- جولة أخرى من الإنفاق في الصين في الفترة ما بين 2016 و2018 كانت أكبر من خطّة التحفيز لعام 2009، وهذه المرّة كجزء من الجهود المبذولة لتصدير رأس المال وإنعاش الأسواق في الدول النامية (وسط وجنوب آسيا، وأفريقيا، وجزء من أميركا اللاتينية). وقدّر مصرف التسويات الدولية BIS أن تبلغ نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي في الصين بحلول منتصف عام 2017، نحو 256%، مقارنة بمتوسط 190% للبلدان الناشئة و250% في الولايات المتحدة (3).
3- توسيع كبير للدين على مستوى عالمي في القطاعين الخاص والحكومي، نتيجة تحمّل الدولة دين المصارف في الأزمة المالية عام 2008 وتوسيع الائتمان في السنوات الأخيرة عالمياً. وبحلول أواخر عام 2017، بلغ الدين العالمي 237 تريليون دولار، بزيادة 42% عمّا كان عليه في بداية الأزمة المالية قبل عقد من الزمن (4).
وقد عزّزت هذه العناصر بعضها البعض، حيث أدّى تأثير التحفيز النقدي المطوّل وتخفيف قيود الائتمان في الولايات المتحدة وأوروبا إلى تعزيز الاستهلاك والطلب الكلي، وصولاً إلى الصين مع زيادة بنسبة 12.9% في نيسان/ أبريل 2018 عن العام السابق (5).
الحروب التجارية تهدّد النظام النيوليبرالي
غير أنّ الانتعاش في الولايات المتحدة لا يزال ضعيفاً تاريخياً، مع معدّل نمو سنوي يبلغ 2.2% تقريباً منذ نهاية الركود عام 2009 (6). فمعدّل النمو السنوي للولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية هو 3%، لكنه يبلغ 2.3% عام 2017، وإن كان بوتيرة أسرع في نهاية العام (7). وقد استغرق الناتج المحلي الإجمالي الأميركي ما يقرب عقداً كاملاً للعودة إلى الخطّ الذي سلكه قبل الركود العالمي. باختصار، لا تزال الولايات المتحدة في حالة «ركود مزمن»، وهي عبارة استخدمت للمرّة الأولى خلال فترة الكساد الكبير، وأحياها وزير الخزانة الأسبق لورنس سامرز في السنوات الأخيرة.
علاوة على ذلك، هدّدت خطّة ترامب التحفيزية بمفاقمة التوترات التجارية، فصادرات الصين إلى الولايات المتحدة تستفيد بشكل مباشر من النمو الاقتصادي الأميركي (8). ويعتبر صعود الصين التهديد الرئيسي في نظر ترامب ومختلف الفصائل المتجمعة حول القومية الاقتصادية الموجّهة نحو التصنيع، وشركات التكنولوجيا والفضاء التي تسعى للدفاع عن الملكية الفكرية، والخبراء الماليين في «وول ستريت» الذين يرغبون في وصول أكبر إلى السوق في الصين، والعناصر المتشدّدة في البنتاغون وجهاز الأمن القومي. وعلى الرغم من أن أهداف هؤلاء غالباً ما تتباعد، إلا أنهم يشتركون في وجهة نظر واحدة مفادها أنه يجب مراقبة صعود الصين (9).
وإذا أصبح كلّ من الاتحاد الأوروبي والمكسيك وكندا، بمثابة أضرار جانبية، في المراحل الأولى من الحرب التجارية على الصلب والألومنيوم، فيعود ذلك، بشكل جزئي، إلى وجود منافسة حقيقية في السوق، ولكن أيضاً إلى قدرة الولايات المتحدة على انتزاع تنازلات من هؤلاء اللاعبين ووضع نموذج برنامج صفقات تجارية ثنائية تصبّ في مصلحة الولايات المتحدة، ضاربة قواعد منظّمة التجارة العالمية بعرض الحائط (10). فهذه الأخيرة التي كانت تعتبر يوماً، بالنسبة إلى واشنطن، وسيلة لتوطيد دور الولايات المتحدة على رأس الهرم الاقتصادي العالمي ولاحتواء الصين، ينظر إليها الآن كمصدر للعرقلة من قبل قطاعات مؤثرة بشكل متزايد من الطبقة الرأسمالية. يشار إلى أن الممثل التجاري الأميركي لإدارة ترامب روبرت لايتهايزر هو الذي قاد المفاوضات الأميركية في ثمانينيات القرن الماضي التي ضغطت على اليابان لاحتواء العجز التجاري للولايات المتحدة (11).

تنافس بين القوى الإمبريالية
سبب هذا التحوّل في السياسة يتجاوز ترامب. فلم تعد الصين كما كانت عليه في تسعينيات القرن الماضي، أي منصّة إنتاج رخيصة للمصنّعين الأميركيين والأوروبيين لمنافسة اليابان (المصابة بالركود منذ ذلك الوقت).
واليوم، تستهدف السياسات الاقتصادية الصينية الصناعات ذات الربحية العالية والمتطوّرة، التي كانت تاريخياً حكراً على الولايات المتحدة والدول المتقدّمة الأخرى (مثل الطيران والروبوتات وتصميم الرقائق الدقيقة وإنتاجها).
هذه هي خلفية الضغوط التجارية لإدارة ترامب على الصين. فإذا كانت سياسات ترامب تبدو متردّدة وغير متماسكة، مثل الرسوم الجمركية على الصلب والألمنيوم، والضغط على الصين لخفض العجز التجاري بمقدار 200 مليار دولار، وإعادة النظر في الشراكة عبر المحيط الهادئ، والصفقة لدعم الشركة الصينية لصناعة الهاتف ZTE، فلأنها تعكس تناقض العلاقات الاقتصادية الأميركية مع الصين الصاعدة التي تجمع بين التكامل والمنافسة، فضلاً عن التصريحات الغريبة لترامب والتغييرات في سياساته. ولكن التوجّه الرئيسي هو المواجهة والتنافس الاقتصادي والعسكري والسياسي على جبهات متعدّدة، حيث تقوم الصين بشكل منهجي بتحويل الصخور المتفرّقة قبالة سواحل اليابان إلى حاملات طائرات ثابتة لتعزيز دفاعاتها، بينما تحاول الولايات المتحدة المناورة في مفاوضات مع كوريا الشمالية على حساب الصين. ولكن الجهد الأميركي لاستخدام الأسلحة الإمبريالية والاقتصادية معاً يتجاوز الصين (12). فالانسحاب الأميركي من صفقة احتواء البرنامج النووي الإيراني حمل في طيّاته تهديداً بفرض عقوبات على الشركات الأوروبية التي تتعامل مع إيران (13). ونتيجة كل ذلك هي إعادة رسم خريطة الاقتصاد السياسي العالمي، مع تأثيرات عميقة على العلاقات بين القوى الإمبريالية (صعود الصين) وكذلك ترتيب السياسات المحلّية في البلدان المتقدّمة.

الاستقطاب السياسي
هذا هو سياق صعود اليمين المتطرّف وعودة اليسار الجديد. ولكن هذا اليسار لا يزال يواجه صعوبات في كيفية تشكيله تحدّياً رئيسياً للنظام: فكل حكومات موجة «المدّ الوردي»، التي نشأت في أميركا اللاتينية في العقد الأول من القرن الحالي، إمّا انتقلت إلى اليمين أو تمّ استبدالها بقوى يمينية والتخلّص من سياساتها لإعادة توزيع الثروات. فـ«سيريزا»، الحزب اليساري المتطرّف الذي تولّى السلطة في اليونان، رضخ لسياسات التقشّف، فيما يواجه «بوديموس»، الصاعد في إسبانيا، تحدّيات مماثلة، كما هي الحال مع تيار اليسار الناشئ في حزب العمّال البريطاني.
وبينما يفشل اليسار الديموقراطي الاجتماعي في طرح برنامج راديكالي لمواجهة رأس المال، تحاول الشعبوية اليمينية ملء الفراغ. ونظراً إلى عدم تمكّن السياسات الاقتصادية النيوليبرالية من إدراج الطبقات المتوسطة في السياسة السائدة، تتكيّف الأحزاب المحافظة مع اليمين المتطرّف أو حتى تتضامن معه. وتحاول شخصيات سياسية بارزة - مثل ترامب، وأوربان في هنغاريا، وكاشينسكي في بولندا، وسلفيني في إيطاليا، وسياسيون بريطانيون مؤيدون لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي - بطرق مختلفة استخدام سياسات قاسية ضدّ المهاجرين ولغة عنصرية وخطابات تدعو إلى تشديد القانون وذلك لمصالحة الطبقات الوسطى والأقسام المحافظة من الطبقات العاملة مع برنامج رأسمالي قائم على القومية الاقتصادية. وليس صعود الأحزاب اليمينية المتطرّفة مثل الجبهة الوطنية الفرنسية والتحالف من أجل ألمانيا، إلى جانب المنظّمات التي تعبّر علناً عن أفكار فاشية، سوى نتيجة ثانوية حتمية لهذه التطوّرات.

أزمات اقتصادية وسياسية ودولية تلوح في الأفق
سوف يزداد هذا التذبذب السياسي والاستقطاب عندما يفسح الانتعاش الضعيف الحالي المجال أمام الركود. أين ومتى وكيف ستظهر الأزمة المقبلة، هو أمر لا يمكن التنبؤ به، ولكن هناك نقاط ضعف عدّة يمكن رصدها اليوم: أزمة ديون في الصين بسبب اقتصادها المحلّي العالي المديونية ومشروع «طريق الحرير» الجديد، وخسائر نتيجة توسّع الديون الاستهلاكية في الولايات المتحدة، وانكماش حادّ في أسواق الأوراق المالية المرتفعة بشكل قياسي والتي تضرب الاقتصاد الحقيقي، وارتفاع سابق لأوانه لأسعار الفائدة وبيع الأصول من قبل الاحتياطي الفيدرالي والمصارف المركزية في البلدان المتقدّمة التي تحاول «إعادة تحديث» قدراتها التحفيزية لمواجهة أي ركود ممكن. وكل هذه ليست سوى بعض الصدمات التي يمكن أن تؤدّي إلى ركود جديد.
مهما كانت مدّة الازدهار الحالي، فما زال من الممكن تحديد الخطوط العريضة لاقتصاد ما بعد نيوليبرالي عالمي يتميّز بقومية اقتصادية، ومذهب تجاري جديد وكتل تجارية متغيّرة. واليوم، أصبح بناء منظمات اشتراكية لقيادة طبقة عاملة دولية وطبقة مضطهدين وإخراجها من هذا المستنقع، مهمة أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى.

International Socialist Review
* ترجمة: لمياء الساحلي

المراجع
(1) «World Economic Outlook, April 2018: Cyclical Upswing Structural Change», IMF, March 20, 2018
(2) «Economic Bulletin», European Central Bank
(3) Karen Liu, «China’s Debt Pile Raises Concern», Capitalwatch, February 25, 2018
(4) Alexandre Tanzi, «Global Debt Jumped to Record $237 Trillion Last Year», Bloomberg, April 10, 2018
(5) «China Export Surge Highlights Trump’s Cause as Tariffs Readied», Bloomberg News, March 8, 2018
(6) «Chart Book: The Legacy of the Great Recession», Center on Budget and Policy Priorities, August 5, 2010
(7) «Final Reading on US Q4 GDP Is up 2.9%, vs 2.7% Growth Expected», CNBC, March 28, 2018
(8) «China Export Surge Highlights Trump’s Cause as Tariffs Readied», Bloomberg News, March 8, 2018
(9) Jack Rasmus, «Is the China-US Trade War for Real? (Part 2 of 3 -Part Series)», Jack Rasmus’s blog, May 9, 2018
(10) Ken Bredemeier, «Trump Wants Separate Trade Talks with Canada, Mexico», VOA, June 5, 2018
(11) Ana Swanson, «The Little-Known Trade Adviser Who Wields Enormous Power in Washington», New York Times, March 9, 2018
(12) Jane Perlez, «China, Feeling Left Out, Has Plenty to Worry About in North Korea-US Talks», New York Times, April 22, 2018
(13) Jon Swaine, «US Threatens European Companies with Sanctions after Iran Deal Pullout», The Guardian, May 13, 2018