هدى بياسيصعبة هي التساؤلات، والأكثر صعوبة منها، الأجوبة التي لا تحصرها احتمالات تابعة لمنطق مسيّس تحت سلطة دين أو عقيدة أو تقليد موروث. فإن تشابهت آراؤنا اختلفت طبائعنا، وإن تشابهت طبيعتنا اختلفت مطامعنا.
وإذا كنّا محاصرين بعُقدنا فهل تبقى ثقافتنا أسيرة قيمنا؟ أم على قيمنا أن تصبح أسيرة ثقافتنا؟
وبالحديث عن القيم نجد أنفسنا أمام طرح آخر يقول: هل قيمنا تحدد قيمتنا؟
وفي ظل هذا الامتداد الكوني ما الذي يحسرنا؟
إن المجتمعات العربية تنسخ ذاكرتها عوضاً عن أن تنسلخ عنها. وهذا تماماً ما يعيق قدرة أي بلد عربي على الوثوب. ومع الأسف الشديد، لسنا في لبنان بعيدين عن الأمراض العربية المتأصّلة، بل إن هذه الأمراض التي ظننا خطأً أنها قد استؤصلت بعد انتهاء الحرب الأهلية وحل الميليشيات وفتح الطرق والمعابر وإعادة الإعمار، تبيّن لنا أن جذورها راسخة في نفوسنا رسوخ الورم السرطاني القديم، إذ سرعان ما تعاود هذه الأورام النمو فتتزايد وتتكاثر بسرعة جنونية حتى تملأ أجوافنا من جديد. طبعاً، مرد هذه الانتكاسة إلى الساسة الذين لا يملكون بديلاً عن الحرب إلا الحرب نفسها، فيجندون شعباً أعمى البصر والبصيرة، لأن «عبادة الفرد» أصبحت شائعة بل أصبحت المرض الأكثر شيوعاً والتصاقاً بنفوسنا، وهي تصيب الكثير من المهتمين والمتابعين للشأن السياسي، ومَن هم في موقع الزعامة والقيادة. هؤلاء الذين كان من المفترض أن يكونوا قدوة لجيلنا لم يعلّمونا إلا حب الصراخ والاستعراض وممارسة العنتريات اللفظية والفظائع السلوكية، وربّونا على احترام قلّة الأدب والتفنّن في تشويه صور الآخرين... إن جيلاً بهذه الأخلاقيات المأساوية لا يملك أن يبني ذاته، فكيف يبني وطناً؟
إن قيمتنا تحددها قيمنا النبيلة، وعليها (أي قيمتنا) أن تُستمد من كبريائنا وكرامتنا وعدم خضوعنا إلا لاحترام مَن يستحق أن نحترمه. لذا فإن مسؤولية التغيير تقع على عاتقنا نحن الأقلية المثقفة في النزول من برجنا العاجي والانخراط بالأكثرية التي لا تعرف أن الكروش المطاطية التي تتبعها لا تعرف الشبع ولا الامتلاء ولا توقفها أي رغبة جامحة في الزعامة. والزعامة داء يتربص بعقل صاحبه حتى يصوّره «معبوداً» لا يتوانى في المضي قدماً في قيادة «العابدين له»، وهم للأسف على استعداد لأن يتبعوه حتى لو كان يقودهم إلى الدمار والخراب. إن الغشاء الداكن الذي يحجب عن هؤلاء الرؤية، لا تخترقه شمس ولا تمزقه حقيقة، فهل هذا نوع من الحب الأعمى أم الانقياد الأخرس؟
مفجع هذا المسار الضيق لعقولهم! قاتل هذا الخضوع المطلق لذلّهم! بل إن هناك ما هو أشد فتكاً ألا وهو شللهم الإرادي أمام زعيمهم.
إن قادة بهذه المواصفات القياسية للجشع لا يضيرهم أن ينعقوا على أطلال بلادهم، لأنهم في الأصل لا ينتمون إلا لأنانيتهم. وتلك الصورة المشوّهة التي رسموها لنا ما هي إلا حقيقة الكذبة، لأنهم وحدهم القادرون على التحكّم باللعبة السياسية وتسخيرها لخدمة اللعبة الاقتصادية التي لا تصب إلا في بطونهم.
وهذا حكر على المجتمعات العربية التي تقوم على مبدأ الاستئثار بالسلطة لا على لبنان وحده.
والحق يُقال إن الملل قد تفشّى فينا، فأنّى ذهبنا نرى المشاهد المعهودة نفسها، وحتى لو اختلف الزمان والمكان وتبدّلت الشخصيات فإن السيناريو واحد والإخراج واحد، وإن تكرار العمل لا يمنحه قيمة إضافية ولا يزيد من انتشاره بل يجعله أكثر سأماً وضجراً للمشاهد الذي لا يتوانى عن أن يضغط على أي زر لتغيير المحطة.
فكن مشاهداً عربياً جريئاً.