حسن خليل


لإرسال رسالة الى المحرر، انقر هنا

كانت دعوة تيار القوات اللبنانية إلى ندوة لمناقشة «حق الاختلاف» تجربة حياتية لكل مَن يدّعي أن لبنان واحد موحّد، وأن اللبنانيين موحَّدون. واقع مؤلم أظهرته مداخلات الحضور والإعلاميين (مع الاحترام الكامل لحقّ كل فرد منهم في الاختلاف) بغضّ النظر عن صوابية الآراء أو خطئها. الإعلاميون جزء من مثقّفي المجتمع، لا مجرد عامّة الناس، وانتماؤهم الاجتماعي والسياسي يعكس مدى تفسّخ المجتمع اللبناني الحديث منذ نشأته أوائل القرن العشرين وتأسيس لبنان «الصغير» وبعده لبنان «الكبير».
لم تنفع مداخلات الداعي ومدير الندوة والقطب السياسي وممثل الرأي الآخر، التي بحثت في تاريخ الاختلاف منذ زمن الفلاسفة اليونانيين مروراً بلعبة الشطرنج، في تغطية الغرائز والنيّات الدفينة والمعلنة بشأن «الخلاف» الأيديولوجي في النسيج اللبناني. مفارقات عديدة طغت خلال الندوة كان أبرزها:
ـــــ عدم توجيه الدعوة إلى إعلاميين من المنار والـOTV و«المتمردين» في الـLBC التي دُعي منها «ضحايا» الولاء، مع العلم بأن عنوان الندوة هو «حق الاختلاف».
ـــــ كان واضحاً أن عنوان الندوة لا يناقض واقع الممارسة السياسية في لبنان، حيث إن الاختلاف المُمارَس ضمن «الحرية المفرطة» وغياب الديموقراطية (قربان «الديموقراطية التوافقية»)، كأن الهدف هو التلميح إلى أن فريقاً في لبنان ـــــ طبعاً المقاومة وحزب الله ـــــ يمنع أفرقاء آخرين من الاختلاف تحت ضغط السلاح، وهذا بدا واضحاً في المداخلات. وفق هذا المنطق، فإن رأي الحضور أن «فائض السلاح» هو المسؤول عن كل ويلات السياسة والأمن والمجتمع.
ـــــ لم يعلّق أحد على ضرورة تثبيت «حق الاختلاف» ضمن الحزب الواحد قبل المطالبة بحق الاختلاف في الوطن، وأن أيّ حزبي في معظم الأحزاب اللبنانية يُقصى إلى حدّ الاغتيال إذا ما عارض رئيس الحزب، وأن معظم تلك الأحزاب تنتقل من أب إلى ابن وأخ وابن أخ وابنة و... حتى النواب لا يجدون فرقاً بين «الزعيم الأول» و«الوريث الموهوب». فقط سلاح المقاومة هو الكارثة.
ـــــ بما أن سلاح المقاومة في رأي بعض الحضور ذو طابع شيعي، جرى التركيز على مذهبيّته من دون الأخذ في الاعتبار أن صراع هذا السلاح هو مع إسرائيل، بينما لم يأتِ أحد على ذكر مجازر فتح الإسلام واغتيالاتهم في حق الجيش والسياسيين. أي بكلام آخر، فإن الدفاع عن الأرض والكرامة مرفوض لأنه يُغلّب طائفة على «طوائف أخرى».
ـــــ لم يكن هناك ردّ فعل أو موقف على عدم منطقية المقاربة بشأن السلوك الاجتماعي الثقافي «الإسلامي» المستحدث في النسيج اللبناني، وأن نقيضه هو السلوك المسيحي. الممارسات الحياتية الاجتماعية اليومية خارج «السلوك الإسلامي» هي أقرب إلى المدنية الأوروبية التي تحرّرت منذ قرون من سلطة الكنيسة، إلّا إذا رأى البعض أن المايوه والبار والكازينو... هي ممارسات مسيحية تباركها الكنيسة، وهذا طبعاً غير صحيح بالمطلق. الهواجس نتيجة «السلوك الإسلامي» لدى البعض ناتجة من مدرسة ممارسة مدنية لا مسيحية. ولكنّ الاصطفاف القائم والنزعة البشرية الانزوائية الانتماء دفعا الحضور إلى اعتبار التناقض إسلامياً ـــــ مسيحياً. طبعاً ارتفعت أصوات مندّدة بأن سلاح المقاومة هو المسؤول.
ـــــ جهود مركّزة من زوايا الكراسي في القاعة صبّت على أن سلاح المقاومة هو المسؤول عن عدم قيام الدولة. لم يجب أحد عن أن سلاح المقاومة لا علاقة له بانعدام الكهرباء والمياه والصحة والزراعة والصناعة، بل على العكس حُمِّل مسؤولية جريمة عين الرمانة الأخيرة و7 أيّار (بدل التنديد باستعمال السلاح مثلاً بغضّ النظر عن حامله، وهذا يمكن تفهّمه). كان هناك تهكّم عند طرح الحيرة بشأن استعمال نفوذ سلاح المقاومة في الداخل أو السلاح نفسه على الحدود. فلو ألقى مسلّحو المقاومة القبض على مشاغبي الشياح لقيل إنه برهان على أنهم يحلّون مكان القوى الأمنية في «المربعات»، وإذا ما تُرك الأمر للقوى الأمنية يقال إن سلاح المقاومة وجمهورها هم مَن يغطّون المجرمين. المنطق نفسه قاله أحدهم بشأن الوجود في الجنوب، «ما هذه المقاومة الموجودة على بعد 20 كيلومتراً عن الحدود ولا تقوم بعمليات منذ 2006؟». إذا ما تقيّدت المقاومة بالقرار 1701 حفاظاً على مصالح لبنان في ظروف معيّنة نُدّد بها، وبأنها مقاومة متقاعسة غير ما تدّعي، وإذا ما ظهرت إلى جانب اليونيفيل على الحدود قِيل إنها تخالف القرار 1701 وتعرّض لبنان للخطر. نتيجة الحوار واضحة: جزء من الشعب اللبناني لا يجد نفسه معنيّاً بأهل الجنوب ولا بأمنهم ولا بمواطنيّتهم، وبالتالي غير معنيّ بحماية سلاح المقاومة ولا حتى بضرورته الردعية. كان غير ممكن فهم عدم التعلُّم من العدو الإسرائيلي الذي شنّ حرب تموز من أجل جنديين وما زال يبحث عن رون أراد.
ـــــ سجال دائم: المقاومة موجودة لأن الدولة غير قائمة بل هيكل دولة، مقابل أن الدولة لن تقوم في ظل «دويلة المقاومة». هذا يدفع إلى السؤال: ألم يحمل البعض السلاح في مواجهة «الخطر الفلسطيني» ومن بعده السوري لأنه لا دولة تحميهم حينها؟ لماذا إذاً الاعتراض على الجنوبيين إذا ما دافعوا عن أنفسهم في ظل وجود هيكل دولة؟
حكومة الوحدة الوطنية وإقرار البيان الوزاري دليلان على استقرار قادم، ولكنه مرحلي. فمَن سمع ما قيل في ندوة «حق الاختلاف» لا يمكنه إلّا أن يستنتج أن لبنان مجرّد كيان جغرافي مؤلَّف من مجموعات لا يثق بعضها ببعض، تمزّقها المذهبية.
ألم يحن الوقت بعد كل ما مرَّ على أرضنا لأن تجمعنا المواطنية والدفاع عن السماء والأرض كقواسم مشتركة في ما بيننا؟ ولنبحث عمّا يوحّدنا ونطرح جانباً «تفاهات الثقافتين والحضارتين والمجتمعين». لكن، يبقى السؤال الأهم: كيف ذلك مع طبقة سياسية كهذه؟